مهما كانت دقة الحسابات واتباع قواعد الأمان فإن أى رحلة أو «مغامرة» فى منطقة صراع، حتى لو كانت محسوبة تظل تحمل قدرا من المخاطرة، والحقيقة هذا ما قررت فعله بعد أن تلقيت دعوة رتبتها وزارة الخارجية الفرنسية فى منتصف الشهر الماضى لحضور مؤتمرين فى العاصمة الأوكرانية كييف أحدهما عن «القرم» (التى ضمتها روسيا فى 2014) والقضية الأوكرانية بشكل عام، والثانى عن الأمن الغذائى وبينهما كان تجول فى المدينة وحوارات مع عدد من الدبلوماسيين الأوكرانيين والفرنسيين.
توكلت على الله وسافرت، وقضينا ليلتنا الأولى فى باريس واكتشفت أن معى فى نفس الرحلة شابين من جنوب إفريقيا وشاب وفتاة من نيجيريا وجميعهم صحفيون على قدر عال من المهنية والاحترام ومعنا أيضا دبلوماسى فرنسى شاب شديد التهذيب والاحترام وسبق أن ذهب العام الماضى إلى هناك وأبلغنا بالقواعد التى يجب الالتزام بها فى حال وجود غارة جوية أو أى أخطار.
استيقظنا فى السادسة والنصف صباحا واستقللنا الطائرة من باريس إلى وارسو التى قضينا فيها بضع ساعات وسبق أن زرتها قبل كورونا بحوالى عام ولفت نظرى وسط المدينة الذى سبق وكتبت عنه مرات عديدة لأنه دمر بالكامل فى الحرب العالمية الثانية وأعيد بناؤه بنفس الطريقة وبنفس التفاصيل كما كان منذ قرون ولم تقل الحكومة هناك دعونا نبنى أبراجًا قبيحة «تجيب قرشين» إنما احترموا تاريخهم وتراثهم المعمارى وأعادوا بناءه كما كان، وبصرف النظر عن الكلفة المادية.
وقد بدأنا رحلة القطار من وارسوا إلى الحدود الأوكرانية ومنها نزلنا لمراجعة جوازات السفر ثم استقللنا قطارًا آخر إلى مدينة أوكرانية ومنها غيرنا للمرة الثالثة إلى مدنية «لفيف Lviv» التى وصلنا إليها فى الثانية صباحًا.
فى اليوم التالى تجولنا فى المدينة وقابنا عمدتها وهو رجل لطيف حاضر الذهن يتحدث إنجليزية «أوكرانية» فاستعان أكثر من مرة بالمترجمة وقدم لنا «كاكاو ساخن» وقال إن بلدته تقدم 20٪ من دخلها لصالح ميزانية الدفاع.
اتجهنا صباح اليوم التالى إلى العاصمة «كييف»، عبر باص صغير، ولكنه مريح واستمرت الرحلة نحو 8 ساعات توقفنا خلالها مرتين لراحة قصيرة ولم نشعر أن البلد فى حرب، على عكس المناطق الشرقية القريبة من جبهات القتال.
وصلنا كييف واتجهنا إلى أحد فنادقها القديمة فى وسط المدينة ونزلنا تطبيقا يعطى إشارات إنذار فى حال حدوث غارة جوية يفترض بعد سماعه أن ننزل إلى المخبأ والحقيقة أن جرس الإنذار ضرب مرتين ولم يشتغل على تليفونى وفى المرة الثانية كانت الغارة قريبة من الفندق ولم أشعر بها والزميل الوحيد الذى التزم ونزل إلى المخبأ من جنوب إفريقيا قال لى إنه كان معه أربعة أشخاص فقط وباقى النزلاء الذين يقدرون بالعشرات بقوا فى غرفهم.
فى صباح اليوم التالى لوصولنا إلى العاصمة «كييف» ذهبنا إلى مؤتمر عرض وجهة النظر الأوكرانية المدعومة من فرنسا وأوروبا فيما يتعلق بقضية القرم وقد أتيحت لى فرصة لقاء عدد من الدبلوماسيين والأكاديميين والصحفيين الأوكرانيين وبعض العرب المقيمين هناك ومنهم المفتى «مراد سيلمانوف» بجانب دبلوماسيين فرنسيين وقلت إن هذه الحرب لكى تنتهى لابد أن تكون هناك مواءمات حول الأراضى التى سيطرت عليها روسيا، وهو ما تضمنته خطة ترامب التى أعلنت عقب مغادرتنا أوكرانيا.
أذكر أننا تجولنا لنحو ساعتين فى شوارع «كييف» مع زميلين من جنوب إفريقيا، وأن ثلاثتنا «شكلنا» أجانب، ومع ذلك لم يوقفنا أحد للسؤال عن «هويتنا» أو جوازات السفر ولم نشعر أننا فى دولة أمنية توقف ضيوفها كل لحظة تحت حجة أنها «فى حالة حرب» أو أن الناس يرتابون فينا ويتعاملون معنا بطريقة غير لائقة لأننا أجانب.
النقاشات مع الجانب الأوكرانى من دبلوماسيين وطلاب وممثلين عن المجتمع الأهلى كانت مفيدة وتفهم كثير منهم أنه لابد أن تقدم أوكرانيا تنازلات كبيرة لإنهاء الحرب، ولكن فى مقابلها يجب أن تحصل على ضمانات حقيقية بعدم هجوم روسيا مرة أخرى على أوكرانيا.
اتضح لى وجود نزاع داخلى يعيشه بعض الأوكرانيين تجاه روسيا، فقد هاجمت طالبة جامعية سياسات الرئيس بوتين وروسيا ووصفتها بأنها استعمارية وعدوانية، ولكنها قالت إنها «مندهشة أن هناك أوكرانيين مازالوا يحبون روسيا ومرتبطين بثقافتها».
صحيح أن أغلب السكان يتكلمون الروسية ولايزال كثيرون متأثرين بثقافتها وبآدابها وفنونها الرفيعة، إلا أن هناك شعورًا لدى كثير من الأوكرانيين بالغضب من السياسات الروسية.
وقد قلت إن كراهية روسيا وشعبها غير مفيدة، فهى جارة كبرى ستبقى حاضرة بحكم التاريخ والجغرافيا، ومع ذلك فإن غالبية الأوكرانيين (أو ممن استمعت إليهم) باتت ترى نفسها جزءا من النموذج الغربى وترغب أن تكون فى الاتحاد الأوروبى وأن القوة الناعمة الروسية التى كانت مؤثرة على أغلب الشعب الأوكرانى تراجعت بعد الحرب.
ما شاهدته واستمعت إليه يعطى انطباعا أن أغلب المجتمع الأوكرانى يرغب فى إنهاء الحرب، لا الاستسلام لروسيا، وفى نفس الوقت فإن أى مبالغة فى قدرات أوكرانيا المدعومة بقوة أوروبيا وفرنسيا يمكن أن تهزم الجيش الروسى سيزهق مزيدًا من الأرواح دون طائل.
مبادرة ترامب ذات الـ28 نقطة لإنهاء الحرب تمثل نقطة بداية لإنهاء الصراع رغم التحفظات الأوكرانية والأوروبية، فهى تقر بالسيطرة الروسية على الأراضى الأوكرانية وفى نفس الوقت تحاول أن تعطى ضمانات صارمة لأوكرانيا تضمن لها عدم قيام روسيا بهجمات جديدة.
إن هذا النوع من الحروب الذى تتجمد فيه المواجهات عند نقطة «لا نصر حاسم» ولا رايات بيضاء ترفع، تنتهى بتنازلات مؤلمة قد يتحمل أغلبها الجانب الأوكرانى، وضمانات صارمة يجب أن تلتزم بها روسيا حتى تنتهى الحرب الأطول فى تاريخ أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية.