بقلم:مصطفى الفقي
تعتبر كتابات الراحل أحمد بهاء الدين بمثابة نقلة نوعية خرج بها عن الأسلوب التقليدى التى يحتفى فيه بعض الكتاب بالشكل على حساب المضمون، وكانت مقالاته أقرب ما تكون لرسائل محددة وعبارات موجزة بلغة سهلة من كاتب كبير بحجم أحمد بهاء الدين ابن محافظة أسيوط والكاتب المتميز فى مدرسة روز اليوسف التى صعد سلمها من أدناه إلى أعلاه حتى ترأس (الأهرام) أقدم الصحف المصرية الباقية، وظل دائمًا علامة مضيئة فى الصحافة المصرية والعربية واكتسب احترامًا فى الأوساط القومية على امتداد خريطة العالم العربى.
واحتك بالأفكار العروبية التى تداولتها المنطقة لعشرات السنين من خمسينيات القرن العشرين وكان ابنًا نابهًا وتلميذًا نجيبًا للسيدة فاطمة اليوسف حتى قيل أنها أملت عليه مذكراتها الشخصية فكتبها بلغته وأسلوبه المتميز، ولقد نجح أحمد بهاء الدين فى استغلال هامش الحرية المتاح فى كل عصر، فبرغم أنه كان ناصرى الهوى إلا أنه كان يختلف عن رفاقه بموضوعيته وشمولية نظرته واتساع أفقه والقدرة على إخراج سبيكة رائعة من الأفكار والرؤى بل والأيديولوجيات التى مر عليها، فكان معروفًا فى كل الأوساط الثقافية العربية حتى بين أعضاء حزب البعث العربى الاشتراكى رغم تباعد قياداته تاريخيًا من حيث النشأة والمسيرة عن الواقع المصرى.
ولكن بهاء الدين اخترق كل هذه المواقع وفتح الأستار وكشف بالضوء الساطع جوانب النقص فى حياتنا ومظاهر التخلف فى مجتمعاتنا، واستطاعت أفكاره أن تصل إلى العقول والقلوب معًا بين أبناء أجيال خمسينيات وستينيات وسبعينيات بل وأيضًا ثمانينيات القرن الماضى، ويكفى أن نتذكر أنه صاحب اقتراح دولة ديمقراطية واحدة فى فلسطين تجمع الكل عربًا ويهودًا، وقد تميز ذلك الكاتب الكبير بحس سياسى خاص بعد أن قضى فى دولة الكويت عدة سنوات رئيسًا لتحرير مجلة العربى هناك خلفًا للفيلسوف العالم الدكتور أحمد زكى، ولقد بقى دائمًا محافظًا على مبادئه منفتحًا على أفكاره قابضًا على معتقداته دون جمود أو تصلب.
كما كان فهمه للإسلام فهمًا عصريًا عادلاً وعاقلاً وتمكن دائمًا من أن يكون فى مقدمة الكتاب المعاصرين والصحفيين اللوامع، كما كان صديقًا قريبًا من الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل ينظر كلٌ منهما للآخر بالاحترام والتقدير وإن اختلفت آراؤهما وتباينت مواقفهما خصوصًا تجاه الزعيمين الكبيرين جمال عبد الناصر وأنور السادات وهما اللذان احتفظ كلٌ منهما بتقديرٍ خاص لذلك الكاتب المتميز والمفكر السياسى الراقى الذى انحاز بطبيعته للفكر الاشتراكى وكان رمزًا للتيار اليسارى الوطنى بغلافٍ عصرى من ثقافة القرن العشرين وآرائه فى السياسة والحكم ومواقفه من الحكام والزعماء.
وعندما اشتدت الحملة على الرئيس جمال عبد الناصر بعد رحيله قال بهاء الدين صيحته الشهيرة (مرحبًا بفتح ملف عبد الناصر بشرط فتح جميع الملفات الأخرى) فى رؤية معتدلة ونظرة متوازنة للأحداث، ولم يتخذ بهاء الدين من السادات موقفًا عدائيًا بل كان فكره تصالحيًا فى إطار مبادئه التى لم يحد عنها أبدًا، وعندما ارتبكت الساحة المصرية على الصعيد الاقتصادى عند تطبيق سياسة الانفتاح بعد انغلاقٍ لا يتعاطف مع سياسة السوق ولكنه يعلى بعض الخصائص المتداخلة للاقتصاد المختلط فأطلق حينذاك بهاء الدين عبارته الشهيرة عن اقتصاد (السداح مداح)، ثم فرض عليه المرض عزلة قسرية قبيل رحيله بسنوات قليلة.. رحم الله بهاء الدين وجيله العظيم من المفكرين والكتاب وقادة الرأى فى تاريخنا المعاصر.