ليس التحقيق مع طلال ناجي الأمين العامّ لـ”الجبهة الشعبية – القيادة العامّة” في دمشق سوى تعبير عن عمق التحوّلات التي تشهدها سوريا ولبنان في آن معاً. لماذا سوريا ولبنان؟ الجواب أنّ تنظيم “الجبهة الشعبية – القيادة العامّة” الذي أنشأه أحمد جبريل، الضابط الفلسطيني في الجيش السوري، لم يكن في يوم من الأيّام سوى أداة لدى الأجهزة السوريّة تُستخدم في الداخل السوري كما تُستخدم في لبنان في تنفيذ مهمّات معيّنة تشير بوضوح إلى نيّات النظام السوري السابق الذي طوى فرار بشّار الأسد إلى موسكو صفحته إلى غير رجعة.
امتلك النظام السوري في عهدَي حافظ وبشّار الأسد علاقة عضويّة بـ”القيادة العامّة” التي شكّلت رأس حربته اللبنانية، في مرحلة ما قبل صعود “الحزب”، في كلّ ما من شأنه إثبات أنّ لبنان ورقة لدى دمشق تستخدمها في كلّ مجال من المجالات. شمل ذلك التخلّص من شخصيّات معيّنة مثل الصحافي سليم اللوزي الذي خُطف في طريقه إلى مطار بيروت في عام 1980 ثمّ قتل بعد تعذيبه… ورُميت جثّته في أحراج عرمون قرب العاصمة اللبنانيّة.
فضّل حافظ الأسد في كلّ وقت التخلّص من خصومه عبر أدوات مثل “القيادة العامّة”. ربّما كان اغتيال كمال جنبلاط في آذار 1977 إحدى المرّات القليلة التي تولّت فيها الأجهزة السوريّة تنفيذ الجريمة بشكل مباشر. كشف ذلك مدى الحقد الشخصي لحافظ الأسد على الزعيم الدرزي اللبناني الذي رفض أن يكون في جيبه. الواقعة الأحدث رواها مروان حمادة عن الأسد حين قال لوفد الحزب الاشتراكي “انسوا بشير الجميل” قبل اغتياله.
كابوس سوريّ ولبنانيّ
يفرض هذا التغيير الكبير والجذري الذي تشهده سوريا، من خلال التحقيق مع طلال ناجي، فتح أعين كلّ طرف من الأطراف اللبنانية على الأبعاد المترتّبة على أنّ سوريا لم تعُد تحت حكم علويّ. لم يكن الحكم العلويّ يتورّع عن استخدام فلسطينيّين لارتكاب جرائمه، أكان ذلك في حقّ الفلسطينيين أنفسهم أو في حقّ سوريا وشعبها أو في حقّ اللبنانيين. كان أحمد جبريل، إلى حين وفاته وفي ضوء العلاقة التي أقامها مع إيران، بعد تلك التي أقامها مع معمّر القذّافي، كابوساً سوريّاً ولبنانيّاً في آن واحد.
كانت “القيادة العامّة”، التي هي انشقاق عن “الجبهة الشعبيّة” التي أسّسها الدكتور جورج حبش مع مجموعة من رفاقه في حركة القوميين العرب، تأكيداً لرفض حافظ الأسد لوجود قرار فلسطينيّ مستقلّ. قال حافظ الأسد في خطاب له إنّ القرار الفلسطيني المستقلّ “بدعة” من منطلق أنّ “فلسطين جنوب سوريا”.
بغضّ النظر عن أهمّيّة طلال ناجي أو عدم أهمّيّته، يظلّ تاريخ “القيادة العامّة” تعبيراً عن وحشيّة النظام السوري من جهة، ورغبته في إخضاع لبنان ومنظّمة التحرير الفلسطينية وتدجينهما من جهة أخرى. من هذا المنطلق اُستُخدمت “القيادة العامّة” في تدمير مخيّم اليرموك في دمشق وتهجير أهله في أثناء الثورة السورية التي اندلعت في آذار 2011.
الأهمّ من ذلك كلّه، كانت وجهة استخدام أحمد جبريل في لبنان. يبقى تدمير فنادق بيروت مثلاً صارخاً على ذهنيّة حافظ الأسد وكيفيّة تفكيره وأسلوب نهجه. في أواخر عام 1975 ومطلع عام 1976، كنت أعمل وقتذاك في صحيفة “النهار”، شاهدت بنفسي كيف دمّر أحمد جبريل، الخبير في المتفجّرات، فنادق لبنانيّة في منطقة الزيتونة. كان يشرف شخصيّاً على إحداث فجوات ينتقل منها مقاتلوه من فندق إلى آخر. لم ينجُ فندق واحد من التدمير الممنهج الذي كانت “القيادة العامّة” تنفّذه بهدف إرضاء نظام سوريّ حاقد على بيروت كما كان حاقداً على كلّ مدينة سوريّة ولبنانية، خصوصاً طرابلس. كان النظام السوري السابق حاقداً على كلّ لبنان، على السُّنّة قبل المسيحيين، وعلى المسيحيين قبل السُّنّة، وعلى الدروز طبعاً، وعلى كلّ صوت شيعي مستقلّ يدرك أنّ لبنان وطن نهائي لكلّ أبنائه.
انقلاب إقليميّ كبير
يعطي فكرة عن مدى خطورة الدور الذي لعبته “القيادة العامّة” الإصرار على إبقاء قواعد عسكرية في الأراضي اللبنانية، في الناعمة (قضاء الشوف) وفي جنتا في سلسلة الجبال الشرقية غير بعيدٍ عن الحدود السوريّة. عبر هذه القواعد الفلسطينية، أراد حافظ وبشّار الأسد تأكيد أنّ لدى النظام السوري موطئ قدم دائماً في لبنان. ما الفائدة من تلك القواعد التي لم يكن لديها من هدف سوى ضرب السيادة اللبنانية والاستهزاء السوريّ بالبلد، أي الانتصار على لبنان بلد الانتصار على إسرائيل؟
لم يكن التحقيق مع طلال ناجي مجرّد تحقيق مع خليفة أحمد جبريل الذي سيتبيّن يوماً أنّ تنظيمه لم يكن بعيداً عن تفجير طائرة “بان أميركان” فوق لوكربي في أواخر عام 1988. لم تكن تلك العمليّة عمليّة ليبيّة فقط بمقدار ما كانت هناك جهات عدّة مشاركة فيها، بمن في ذلك جهات إيرانيّة والنظام السوري السابق نفسه.
بخروج إيران من سوريا، حصل انقلاب إقليمي كبير. لا شكّ أنّه ستكون للانقلاب انعكاساته على لبنان وعلى كلّ دولة في المنطقة، بما في ذلك عمليّات تهريب المخدّرات إلى دول الخليج العربي والسلاح إلى الأردن.
قد يستطيع لبنان الاستفادة من التحوّل السوري ذي الطابع العميق، وذلك على الرغم من كلّ التعقيدات التي تواجه النظام الجديد في دمشق، وهو نظام لا يزال أمامه الكثير كي يثبت أنّه أهلٌ لتولّي المسؤوليّات في بلد مركّب ومتنوّع لا يمكن أن يواجه استحقاقات المرحلة الراهنة بفكر “هيئة تحرير الشام”.
يستطيع لبنان القول إنّه تخلّص من كابوس أحمد جبريل و”القيادة العامّة” وأدوات النظام العلويّ السوري الذي آمن بحلف الأقلّيات وبأنّ لديه القدرة على تغيير طبيعة سوريا ولبنان، وهو ما فشل فيه فشلاً ذريعاً!