في الوحدة والتقسيم والفيدراليّة وسواها

في الوحدة والتقسيم والفيدراليّة وسواها...

في الوحدة والتقسيم والفيدراليّة وسواها...

 العرب اليوم -

في الوحدة والتقسيم والفيدراليّة وسواها

بقلم:حازم صاغية

على عكس التقليد السياسيّ الأميركيّ حيث حظي مفهوم «الفيدراليّة» بمضمون إيجابيّ، قدّمت التجربة الفرنسيّة معنى مغايراً. ولربّما كانت ثورة 1789 مصدر الاستخدام التشهيريّ الأوّل للمفهوم المذكور. فحينذاك شهدت مدن فرنسا انتفاضات ضدّ اليعاقبة و»لجنة السلامة العامّة»، وقد تعاطفَ أغلبُ المنتفضين مع الجيرونديّين الأكثر اعتدالاً، فرفضوا مركزة السلطة كلّها في العاصمة باريس وحجب السلطة عن 82 مقاطعة في البلد. هكذا سمّاهم خصومهم الراديكاليّون «فيدراليّين» في معرض اتّهامهم بالعمل على تجزئة الوطن والدولة، وهذا قبل أن يسحقوا انتفاضاتهم بلا رحمة.

وإذ وسمتْ تلك التجربة تاريخ فرنسا الحديث، فجعلتها الاستثناء الأكبر في اعتمادها المركزيّة قياساً بالفيدراليّة التي اختارتها غالبيّة بلدان أوروبا، فإنّها أسّست للغة التشهير بالفيدراليّة كما بالتقسيم والانفصال والتجزئة، وتقديمها كلّها كمرادفات لمعنى واحد.

لكنّ ما يُلاحَظ أنّ الإدانة هذه استُخدمت أكثر ما استُخدمت لاحقاً في بلدان «العالم الثالث»، حيث يتجاور الطلب على الوحدة وضعف مكوّنات تلك الوحدة في الواقع. واليوم تندفع هذه الوجهة بقوّة غير معهودة، أقلّه في المشرق العربيّ. فالذين يشهّرون لا يفعلون ذلك من موقع المركزيّة اليعقوبيّة الصارمة، بل يصدرون عن دول مُفتّتة تعيش واقعاً من الانقسام ومن هزال الدولة المركزيّة، على ما نرى في لبنان وسوريّا والعراق. وحتّى الذين لا يكتمون الولاء لمركزيّة قصوى، مسكونة بالتعسّف والقهر، باتوا عاجزين عن ذلك، وهو ما تنمّ عنه الأحوال العامّة في سوريّا خصوصاً، ولكنْ أيضاً في العراق. بل يمكن القول، في نظرة إجماليّة، أنّه كلّما زاد هذا الهزال المشرقيّ هزالاً قويت نبرة التنديد بالتجزئة والتفرقة، والتي يُنسب إلى الاستعمار إيّاه أنّه يرعاها. فكأنّنا، في عاصفة الوعي الخرافيّ التي لا تتعب من هبوبها علينا، نكرّر ما قصدته العبارة الشهيرة، الساخرة إنّما الصائبة، عن اللاساميّة البولنديّة: كلّما قلّ عدد اليهود هناك زادت اللاساميّة قوّة.

على أنّ الهزال والخرافة ليسا عديمي الفعاليّة، وهذا عائد، في درجة بعيدة، إلى اللغة الموروثة التي تمجّد الوحدة وتنكر أزماتها. فلبنان مثلاً لا تزال هزيمة الدولة فيه غير معلنة تماماً، كما لا يزال انتصار الميليشيا فيه غير معلن. صحيح أنّ الحسّ الشعبيّ يلتقط هذه الحقيقة ويعبّر عنها («ما في دولة»)، لكنّ المنشغلين بانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة يزدادون انشغالاً، أو يمعنون في تسجيل المآخذ على اللادستوريّة في عمل رئيس البرلمان، وفي ظنّهم أنّهم يمارسون تأثيراً ما في الحياة العامّة. وهكذا ينهض التصرّف، أقوالاً ورهاناتٍ، على افتراض أنّ الدولة قائمة، لا ينقصها إلاّ إعادة بناء وحدتها وتمتين تلك الوحدة. وفي المقابل يمضي «حزب الله» في توكيد أنّ همّه الوحيد هو المقاومة و»حماية لبنان»، فيما معاذ الله أن يتدخّل في أمور أخرى تخصّ الدولة وحدها. ونعلم، ووراءنا تجارب لا تُحصى، أنّ محكّ الولاء لدولة واحدة ليس «إعلان» هذا الولاء، ولا إرفاقه بـ «إعلان» آخر عن التمسّك بالطائف، بل هو في تقديم تنازلات صلبة وملموسة للجماعات الأخرى تؤكّد أولويّة العيش المشترك وترفع مصلحة الجماعات على مصلحة جماعة بعينها. وهذا ليس في الوارد بتاتاً.

لهذا فإنّ الأكثر واقعيّة بين الدولتيّين على أنواعهم هم أولئك الذين يدعون «حزب الله» لأن يحكم البلد بصفة مباشرة وأن يستكمل إقامة دولته من دون أيّ تمويه أو ازدواج مزعوم، وبما يؤمّن للدولة «وحدتها» المرتجاة التي هي «الوحدة» الوحيدة الممكنة. إلاّ أنّ أحداً، وللأسباب الكثيرة المعروفة، لا يقول هذا.

لكنّ إعلان عدم موت الدولة والانصراف إلى هجاء الفيدراليّة والتقسيم وسواهما من «الأمراض» وظيفيّان جدّاً ولا يخدمان إلاّ طرفاً واحداً هو «حزب الله». فهما، في أزمنة السلم القليلة، يتيحان للحزب أن يلعب دور البريء المتواضع الذي لا يسعى إلاّ إلى حماية بلد يمنحه حبّه وولاءه من غير أن يريد مقابلاً لذلك. وهما، في أزمنة الحرب، يتيحان له جرّ بلد «موحّد» إلى معاركه، واستعماله «كلّه» وقوداً لها. أمّا مَن يتلكّأ عن ذلك فخائن لوطن واحد ودولة واحدة!

بلغة أخرى، لا يبقى من توكيد الوحدة البسيطة وهجاء معارضيها سوى توطيد تحكّم الميليشيا مع إعفائها من المسؤوليّة، وهو ما يصحّ بصيغ لا تختلف إلاّ قليلاً في العراق وسوريّا. فوحدة البلدين حلّ بها ما حلّ بقضيّة فلسطين، حيث قُتلت فلسطين وخُلّدت قضيّتها التي صارت، بين ما صارته، مكسباً للميليشيات وللإرادات الإقليميّة ومادّة قتل أو مادّة ابتزاز وإخضاع للفلسطينيّين. يبقى أنّ المستفيدين عندنا من هذا النهج، ومن هيكل الوحدة العظميّ، ليسوا يعاقبة تأثّروا بروسّو وأحبّوا الوحدة والمركزيّة، بل مجرّد ميليشيات تفتّت كلّ شيء وترفع علم الوحدة عالياً، وخائنٌ مَن يقول غير ذلك.

 

arabstoday

GMT 08:00 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

ممداني... و«سنونو» نيويورك!

GMT 07:51 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

نيويورك بين أسوار الليبرالية والاشتراكية

GMT 07:49 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

من نيويورك إلى غزّة

GMT 07:47 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

الفرح ليس حدثاً

GMT 07:46 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

تلك الصورة في البيت الأبيض

GMT 07:44 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

زغلول النجّار.. ودراما الإعجاز العلمي

GMT 07:43 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان: المفاوضات وأزمة السيادة المنقوصة

GMT 07:41 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

طيور المحبة بين الرياض والقاهرة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في الوحدة والتقسيم والفيدراليّة وسواها في الوحدة والتقسيم والفيدراليّة وسواها



أنغام تتألق بفستان أنيق وتلهم عاشقات الأناقة في سهرات الخريف

القاهرة - السعودية اليوم

GMT 17:52 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

المتحف المصري الكبير يجذب 19 ألف زائر يوميا
 العرب اليوم - المتحف المصري الكبير يجذب 19 ألف زائر يوميا

GMT 19:53 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

لاريجاني يؤكد رفض إيران التفاوض على برنامجها الصاروخي
 العرب اليوم - لاريجاني يؤكد رفض إيران التفاوض على برنامجها الصاروخي

GMT 18:30 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب يعلن أسبوع مناهضة الشيوعية ويهاجم خصومه التقدميين
 العرب اليوم - ترمب يعلن أسبوع مناهضة الشيوعية ويهاجم خصومه التقدميين

GMT 15:46 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

علماء يكتشفون مفتاح إطالة عمر الإنسان عبر الحمض النووي
 العرب اليوم - علماء يكتشفون مفتاح إطالة عمر الإنسان عبر الحمض النووي

GMT 14:00 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

يسرا تؤكد أنها لم تلجأ لأي عمليات تجميلية وأسرار نجاحها
 العرب اليوم - يسرا تؤكد أنها لم تلجأ لأي عمليات تجميلية وأسرار نجاحها

GMT 07:18 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

السودان .. وأمن مصر القومى !

GMT 01:07 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

دواء جديد يحمي مرضى السكري من تلف الكلى

GMT 16:44 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

اليابان تحذر من تسونامي يهدد مقاطعة إيواتي الشمالية

GMT 15:46 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

علماء يكتشفون مفتاح إطالة عمر الإنسان عبر الحمض النووي

GMT 15:59 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

تجنب سماعات الرأس ليلا للحفاظ على صحة الدماغ والسمع

GMT 20:04 2025 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الحليب والسلوى

GMT 08:38 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابات بقصف مسيّرة إسرائيلية سيارة جنوبي لبنان

GMT 07:27 2025 الإثنين ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

ما يجري في السودان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab