المشي في المدينة

المشي في المدينة

المشي في المدينة

 العرب اليوم -

المشي في المدينة

مأمون فندي

«المشي في المدينة» واحد من أجمل مقالات الفيلسوف الفرنسي ميشال دي سارتو، والذي يقول فيه إن المدن تصنعها أقدام وخطوات من يمشون فيها، ويحركون فيها طاقات إيجابية. لا أكتب عن نيويورك التي كتب عنها دي سارتو الذي أصبح مقاله كتابا مهما في ما بعد، لكنني أكتب عن مدينة الطاقة المتجددة والروحانية المستدامة، عن مدينة تشكل فضاءها الروحاني تلك الدعوات القادمة من حاجات حقيقية لمريض أعيا الأطباء داؤه، أو سيدة تبحث عن أمومتها من خلال مولود يأتي أو لا يأتي. دعوات تتعلق في سماء المدينة فتحدث تلك الذبذبات التي تجعل المكان مركز طاقة روحانية وصلوات مستدامة. أكتب عن مدينة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، عن المدينة المنورة، التي رأيت رمزياتها من فوق من الطائرة ليلا، قبل أن تطأ قدماي مساحات المقدس.
ظهرت المدينة كبقعة مضيئة وسط الظلام، نقطة انطلاقة إشعاع، وهكذا كان صاحب المدينة مركز إشعاع حضاري وإنساني، تجمع حوله البشر من كل الأجناس والألوان بحثا عن الوصل وسقيا النفس والطريق إلى الله، فهو الرحمة المهداة للبشرية جمعاء.. «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».
المشي في المدينة زهد وتجديد للروح، فكما يخرج الثعبان من جلده القديم، يخرج الإنسان في المدينة من جلده القديم ليكتسي بروحانية جديدة وبطاقة متجددة لا يعرفها من اخترعوا اسم الطاقة المتجددة والتنمية المستدامة.. إنها تجدد الروح، وهي أيضا استدامة وتنمية للنفس وتهذيب لها.
ما إن تطأ قدماك محيط المسجد النبوي حتى تحس بتغير في الهواء وفي درجة الحرارة، وتغير في طبيعة نفسك. عندما ذكرت هذا التغير الفيزيائي لصديق يمشي معي قال: «إنه الرذاذ المتطاير من التكييف المائي المحيط بالحرم، والذي جاء ضمن التوسعة الأخيرة التي حدثت في عهد الملك فهد بن عبد العزيز». قلت ما قامت وتقوم به المملكة العربية السعودية من عناية بالمسجد النبوي الشريف وببيت الله الحرام، وراحة الحجاج، لو لم تفعل تلك الدولة غيره لكفاها. ولكن ما أتحدث عنه هو جانب آخر، عن تلك الدوائر الروحانية وتراتب درجات حرارتها، بداية من الروضة الشريفة إلى آخر ذلك المجال المغناطيسي الذي ترسم حدوده طاقة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المستدامة المتجددة.
المشي في المدينة يدخلك عوالم أخرى غير عوالم ركوب سيارة في المدينة. مشيت في المدينة كي تتعرف قدماي على المقدس، وكي تستمتع أذني بذبذبات دعوات أهل الحوائج الكبيرة والصغيرة التي يتركها المسلمون خلفهم بعد الزيارة كأمانة عند أهل المدينة. وبأهل المدينة لا أعني الأحياء من أهلها، بل من انتقلوا من المسلمين من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصحبه (رضي الله عنهم) إلى أهل الخطوة ممن مروا من هنا، أو الباقين.
تتكشف لي المدينة بأشكال مختلفة، ففي كل زيارة لها شيء، كما وردة فيها ورقة رقيقة تغطي أخرى، وكلما تفتقت ورقة طار منها عبير مختلف ودرجات ألوان مختلفة تدركها الروح قبل أن تراها العين، ومن ذاق عرف.
لا شك أن سدنة مدينة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وخدامها في الظاهر والباطن هم من يجعلونك تكتشف تلك الطبقات التي يرتاح بعضها فوق بعض، كما تلك الوريقات الناعمة التي تراها في فطائر الطعام التي تقدم في بيوت أهل المدينة والتي تسمى «البريك»، وهي شيء أقرب إلى الفطير المشلتت في مصر أو المرقوق في نجد أو هكذا ظننت اسمها.. فطائر رقيقة صنعتها أنامل أهل المدينة كما يطورون في مدينتهم كل يوم.
ترددت على المدينة منذ أكثر من خمسة عشر عاما مع أول زيارة، وفي كل زيارة كان لها رونق مختلف. في هذه الزيارة ذهبت إلى قباء، ورأيت إعادة تركيب التراث المديني الذي انتهى بعضه كمعمار مع توسعات المسجد النبوي المختلفة، ورأيت أهل المدينة يعيدون تركيبه في حي تراثي بديع يجمع بين عمارة المكان وعمار الروح.
مدينة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليست كأي مدينة.. ليست «city»، بل هي عمران في المكان والزمان والنفوس. من إضاءة جبل أحد ليلا، إلى قبر سيد الشهداء، إلى مسجد القبلتين، إلى حيث بركت الناقة وكان مسجده صلى الله عليه وسلم.
إشعاع المدينة دائم، لكنه مرتبط أحيانا بمن حكم. فمدينة عمر بن عبد العزيز ليست كمدينة الحجاج.. تضيء بنور ربها وبتسخير وتوفيق من حكم.
المشي في المدينة ليس كالمشي في أي من المدن، تمشي خفيفا، وكأن شيئا سحريا يحملك. تودعها لتركب الطائرة فتحلق روحك قبل الركوب لتراها ثانية من الطائرة كلؤلؤة تزين عقد الأرض وتملأها بهاء من بهاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

arabstoday

GMT 19:03 2024 الأحد ,12 أيار / مايو

حين تعيش الأفكار

GMT 18:58 2024 الأحد ,12 أيار / مايو

رحل «البدر»... و«المسافر راح»

GMT 18:56 2024 الأحد ,12 أيار / مايو

الجولة الأخيرة !

GMT 18:54 2024 الأحد ,12 أيار / مايو

كلمة للتاريخ

GMT 18:48 2024 الأحد ,12 أيار / مايو

المدافعون عن إسرائيل فى أمريكا

GMT 18:45 2024 الأحد ,12 أيار / مايو

مانشستر سيتى القوى نحو لقب آخر

GMT 00:22 2024 الأحد ,12 أيار / مايو

شاهد على مصر والقضية الفلسطينية (٩)

GMT 00:19 2024 الأحد ,12 أيار / مايو

ولتسويفسكي!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المشي في المدينة المشي في المدينة



النجمة درة بإطلالة جذّابة وأنيقة تبهر جمهورها في مدينة العلا السعودية

الرياض ـ العرب اليوم

GMT 22:29 2024 السبت ,11 أيار / مايو

نصائح غذائية لتقوية جهاز المناعة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab