بقلم : عبد اللطيف المناوي
تعيش النخبة السياسية فى الغرب، وتحديدًا فى بريطانيا، حالة من الفصام العميق (الشيزوفرينيا) الأخلاقى والسياسى فى تعاملها مع المأساة المتواصلة فى غزة. لا يمكن وصف هذا الاضطراب إلا بأنه مزيج من رعب عميق من تهمة «معاداة السامية» من جهة، ومن ازدواجية معايير صارخة من جهة أخرى، يتحكمان معًا فى طريقة تعاطى السياسيين ووسائل الإعلام الغربية مع جرائم الحرب التى تُرتكب بحق الفلسطينيين يومًا بعد يوم.
فى مقاله الأخير فى صحيفة «الجارديان»، قدّم الكاتب البريطانى «أوين جونز» شهادة قوية، بل إدانة أخلاقية صريحة لحالة الانفصام التى تسود الخطاب السياسى والإعلامى فى بلاده. استعرض جونز كيف أن هتاف مغنٍ غاضب فى مهرجان جلاستونبرى ضد الجيش الإسرائيلى - تحديدًا عبارة «الموت لجيش الدفاع الإسرائيلى» - أثار عاصفة سياسية وإعلامية عاتية، شملت إدانات رسمية، وتحقيقات جنائية، واتهامات فورية بمعاداة السامية، بينما مرّ خبر موثق نُشر فى صحيفة إسرائيلية كبرى يفيد باعتراف جنود إسرائيليين بتلقى أوامر بإطلاق النار على فلسطينيين عزّل أثناء انتظارهم مساعدات إنسانية، مرور الكرام، دون شجب ولا محاسبة.
الرسالة هنا واضحة: خمس كلمات فى عرض موسيقى تُعدُّ جريمة، بينما مذبحة تُودى بحياة أكثر من ٦٠٠ إنسان جائع تصبح تفصيلًا لا يستحق اهتمام الصفحات الأولى أو موجزات الأخبار. إنها ازدواجية أخلاقية بامتياز، تنبع من خوف مرضى أصاب العقل الغربى، مفاده أن أى انتقاد لإسرائيل قد يُفسّر فورًا على أنه عداء للسامية.
المشكلة لا تكمن فقط فى تجاهل معاناة الفلسطينيين، بل فى ما هو أعمق: تحويل الضحية إلى متهم، وإعفاء الجلاد من أى مساءلة، فقط لأنه يتدثّر بعباءة «الديمقراطية الغربية» أو «الدولة الحليفة». حتى المؤسسات التى يُفترض أنها مستقلة، مثل BBC، لم تسلم من هذا التواطؤ الناعم. فقد سارعت لإدانة الهتاف ضد الجيش الإسرائيلى باعتباره «معاداة للسامية»، متجاهلة أن هذا الجيش نفسه هو موضوع مذكرات توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس وزرائه ووزير دفاعه السابق، بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
الهتاف لم يكن دعوة إلى القتل، بل صرخة احتجاج ضد آلة عسكرية عنيفة ترتكب جرائم موثقة. لكن الصوت الذى يُطالب بتفكيك تلك الآلة يُجر إلى القضاء، بينما يواصل الساسة الذين يزوّدونها بالسلاح مهامهم بهدوء دون مساءلة.
إن هذا التناقض الأخلاقى الفج فى الغرب يعكس أزمة قيم حقيقية: كيف يمكن لثقافات تتغنى بحقوق الإنسان، وحرية التعبير، وكرامة الفرد، أن تصمت – بل وتدين من يتكلم – حين يتعلق الأمر بفلسطين؟.
لقد حذر أوين جونز من أن هذه الجريمة، أى تدمير غزة، موثقة للغاية، ووقحة للغاية، وفاضحة للغاية، بحيث لا يمكن طمسها إلى الأبد. سيأتى يوم تُحاسَب فيه الأيدى التى زودت القتلة بالسلاح، والأصوات التى صمتت عن الحق، والأنظمة التى استخدمت «معاداة السامية» درعًا لتحمى بها نفسها من النقد الأخلاقى والسياسى المشروع.