بقلم : عبد اللطيف المناوي
هذا التكليف ليس عاديًا؛ فانتخاب الدكتور خالد العنانى، وزير السياحة والآثار المصرى الأسبق، مديرًا عامًا لليونسكو يفتح صفحة جديدة في قيادة المنظمة الثقافية الأهم عالميًا. جاء الفوز كاسحًا بتصويت ٥٥ بلدًا مقابل صوتين لمنافسه الاقتصادى الكونجولى إدوار فيرمان ماتوكو، ليصبح العنانى أول عربى مصرى يتصدر المنظمة المهمة منذ تأسيسها. هذه الأرقام لا تعكس فقط إجماعًا دوليًا نادرًا، بل تُحمِّله أيضًا مسؤولية كبيرة. ولكن!
العنانى يعرف قبلى أن المهمة صعبة لأسباب عديدة. أولها أن جرح غزة ليس جرحًا في الأرواح فقط، بل إن الحرب سوف تترك أثرًا مدمرًا على ذاكرة البشر المادية. خلال العامين الماضيين شهد القطاع تدميرًا واسعًا لمواقع دينية وتاريخية وأسواق ومتاحف ومكتبات، وهذا ما أكدت عليه المنظمة التي أصدرت بيانًا تؤكد أنها رصدت الأضرار قوائم المواقع المتضررة عبر صور الأقمار الصناعية. هذا الدمار ليس هامشيًا؛ إنه يضرب صميم وظيفة المنظمة في صون التراث والهوية وسط أزمات إنسانية لم نشاهدها من قبل.
لهذا سيكون مطلوبًا من العنانى أن يوازن بين الإغاثة العاجلة لحفظ الذاكرة واستراتيجيات الترميم بعيدة المدى وتعبئة الشركاء والتمويل. فعلًا، صعوبة التمويل سبب آخر لصعوبة المهمة، فمنظمة اليونسكو تواجه تحديات تمويلية حساسة، تفاقمت بعد انسحاب أمريكا الذي أعلنه ترامب، وما سوف يترتب عليه من فجوات في الميزانية، إلى جانب الاستقطابات الجيوسياسية التي تضغط على ملفات التعليم والعلوم والثقافة في كثير من دول العالم. وهذه معركة إدارية بامتياز، لا تقل صعوبة عن صيانة حجر قديم أو مخطوط نادر.
وبقدر الصعوبات، بقدر الفرص. فاختيار العنانى بهذه النسبة الساحقة يعنى أن الدول الأعضاء وضعت ثقتها في سجله المهنى وقراءته المتوازنة لدور الثقافة في التنمية والسلام، وأنها تتوقع إدارة شاملة تعيد وصل التعليم بالتراث والعلوم بالمجتمعات المحلية. هذه الثقة ربما تكون تفويضًا لقيادة قادرة على مخاطبة العالم بلغاته المتنوعة، ودفع الدول لتوسيع قوائم الحماية والتصنيف، وتسريع آليات الاستجابة في مناطق النزاع.
أما على مستوى مصر، اللحظة تبدو مواتية لدفعة كبيرة في سجل التراث العالمى، فمصر لا تزال تحتفظ بقائمة طويلة من المواقع على «القائمة المؤقتة» تنتظر التسجيل، وإدارة العنانى لا تعنى تفضيلًا وطنيًا، لكنها تمنح زخمًا مهنيًا ومعرفيًا يمكن توظيفه في ترقية ملفات الترشح، ورفع معايير الحفظ، وربط الملف التراثى بالتنمية السياحية والثقافية المستدامة، خصوصًا في القرى والمناطق التي تحتاج إلى توثيق دقيق.
أمام العنانى تفويض واسع وتحديات أعرض. فوزه الكاسح يمنحه ثقة لقيادة إصلاحات واقعية في اليونسكو، تبدأ من حماية الذاكرة المهددة في غزة وسواها، وتمرّ بإعادة هيكلة التمويل وتوسيع شراكات الابتكار، وتنتهى ببناء ثقافة عالمية تعتبر التراث حقًا عامًا لا رفاهية.
أتصور أن العنانى مدرك لهذه التحديات وأكثر، ولكن أتمنى أن يتحول إدراكه هذا لأجندة عمل قابلة للقياس، وحينها ستربح المنظمة، ويربح التراث الإنسانى، وتربح مصر، وابنها العنانى.