بقلم : عبد اللطيف المناوي
لم يشهد العالم من قبل أن تجرأ أمين عام للأمم المتحدة على مخاطبة المجتمع الدولى بلغة بهذا الوضوح والجرأة. أنطونيو جوتيريش، الرجل الذى اعتاد أن يوازن بين لغة الدبلوماسية وحسابات القوى الكبرى، اختار هذه المرة أن يصرخ: «يجب ألا يخشى العالم من ردود أفعال إسرائيل، لأنها ستستمر فى أفعالها سواء تحركنا أم لا».
تصريح كهذا ليس مجرد توصيف لحالة، بل خروج على الخط المألوف فى أداء كبار المسؤولين الأمميين، الذين غالبًا ما اكتفوا ببيانات متحفظة تحرص على عدم استفزاز تل أبيب أو راعيها الأمريكى.
الخلاف بين جوتيريش وإسرائيل ليس وليد اللحظة. فمنذ اندلاع الحرب على غزة بعد 7 أكتوبر، اتهمته الحكومة الإسرائيلية بالانحياز، بل وصل الأمر إلى مطالبة وزير خارجيتها باستقالته، حين قال إن ما جرى «لم يحدث من فراغ»، فى تلميح إلى جذور الاحتلال. إسرائيل رأت فى تصريحاته الأخيرة تحديًا مباشرًا، لأنه يتجاوز نقد السياسات إلى التشكيك فى شرعية الخوف ذاته من دولة الاحتلال. وهذا تطور خطير بالنسبة لتل أبيب، التى بنت طوال عقود شبكة حصانة دولية قائمة على استثمار عقدة المظلومية بعد الحرب العالمية الثانية.
كما جرت العادة، تعاملت إسرائيل مع تصريحات جوتيريش بمنطق «الهجوم خير وسيلة للدفاع». مسؤولون فى الحكومة وصفوا كلامه بأنه «تحريض» و«إهانة لذكرى ضحايا الإرهاب»، واتهموه باستخدام موقعه الدولى لتبرير «الإرهاب الفلسطينى». الصحافة الإسرائيلية القريبة من دوائر صنع القرار ذهبت أبعد، إذ طالبت بفتح نقاش حول جدوى بقاء الأمم المتحدة نفسها كمنصة، باعتبارها «مسرحًا منحازًا ضد إسرائيل».
هذه ليست المرة الأولى؛ فكلما ارتفعت لهجة النقد الأممى، سواء من مجلس حقوق الإنسان أو من لجان التحقيق، تبادر إسرائيل إلى التشكيك فى نزاهة المؤسسة الدولية، وتوظيف ثقلها السياسى والإعلامى لنزع الشرعية عن من يقودها.
لا شك أن صرخة جوتيريش تمثل لحظة فاصلة على المستوى الرمزى؛ إذ لا يملك كثير من السياسيين العرب اليوم الجرأة ليقولوا بصراحة ما قاله الأمين العام البرتغالى. مقارنة بمواقف بيانات القمم العربية والإسلامية التى اكتفت بالتحذير والتنديد، تبدو كلماته أشبه بـ«صفعة» على وجه صمت طويل. لكن السؤال المركزى يبقى: ما قيمة هذه الصرخة إن غابت الإرادة الدولية؟ وما أثرها إذا ظل مجلس الأمن أسيرًا لحق النقض الأمريكى؟
على الأرض، تواصل إسرائيل سياستها: ضم زاحف للضفة الغربية، وحرب إبادة فى غزة وصفها العالم بأنها الأقسى منذ الحرب العالمية الثانية. ومع كل ذلك، لم تواجه سوى بيانات شجب، فيما تحولت بعض الدول الأوروبية إلى الاعتراف المتأخر بفلسطين كخطوة رمزية. الحقيقة أن إسرائيل تعلم أن بنيان القوة الدولية ما زال يميل لصالحها، وأن أقصى ما قد يواجهها هو تزايد عزلة سياسية لا تمنعها من الاستمرار فى فرض وقائع جديدة.