بقلم : عبد اللطيف المناوي
فى تهديد هو الأول من نوعه، استهدف سرب من المسيَّرات التابعة لـ«قوات الدعم السريع»، مطار مدينة بورتسودان، العاصمة المؤقتة التى يتخذها الجيش السودانى مقراً لإدارة البلاد. ويمثل الهجوم على بورتسودان تحولاً كبيراً فى الصراع المستمر منذ عامين بين الجيش و«قوات الدعم السريع»، وقد يغير نتائج الصراع الذى بدأ وكأن الجيش على وشك حسمه.
على مدى العقود الماضية، ظلّت الحروب تُفهم ضمن إطار مفاهيم تقليدية راسخة: الجيوش النظامية، الاحتلال الميدانى، التفوق الجوى عبر الطائرات المقاتلة، ومعارك الاستنزاف طويلة الأمد. غير أن دخول المسيّرات والطائرات بدون طيار (UAVs) قلب هذه المعادلات، فأعاد تعريف مفاهيم التفوق، والتكلفة، والسيادة، بل وحتى معنى الانتصار والهزيمة.
المسيّرات اليوم ليست مجرد أدوات قتالية أو استخباراتية، بل أصبحت تمثّل تحولاً جذريًا فى فلسفة الحرب نفسها، وهذا التحول يمكن رصده من خلال عدة زوايا استراتيجية وتكتيكية.
فى الماضى، كان يُنظر إلى التفوق العسكرى من زاوية امتلاك حاملات الطائرات، أو طائرات F-١٦ وF-٣٥، أو الصواريخ الباليستية. أما اليوم، فقد أظهرت التجارب أن مسيّرة صغيرة يمكن أن تُحدث تأثيراً استراتيجياً لا يقل أهمية.
النزاع بين أذربيجان وأرمينيا (٢٠٢٠) كان الإشارة الجادة المبكرة لحجم التغيير. فقد أثبتت المسيّرات التركية «بيرقدار TB٢» أنها قادرة على تدمير أنظمة الدفاع الجوى والدبابات والمواقع المحصنة دون تدخل جوى تقليدى. فقدت أرمينيا معدات عسكرية بمئات الملايين من الدولارات، رغم تفوقها التقليدى فى بعض الجوانب، كان ذلك أول انتصار استراتيجى لمسيّرات منخفضة التكلفة على جيش تقليدى.
تقليديًا، كانت كلفة شنّ غارة جوية تشمل الطيار، الطائرة، الوقود، الصيانة، والتخطيط اللوجستى. أما اليوم، فيمكن لمسيّرة بكلفة أقل من مليون دولار أن تنفّذ المهام نفسها التى كانت تتكلف مئات الملايين.
اعتمدت أوكرانيا على مسيّرات تجارية معدلة وطائرات بدون طيار لتنفيذ هجمات دقيقة فى العمق الروسى. وسيلة ردع بكلفة بسيطة، مع تأثير سياسى ونفسى عالٍ.
مفهوم «العمق الاستراتيجى» تغيّر كليًا. لم تعد الحماية الجغرافية كافية، فحتى الدول ذات العمق الكبير باتت عرضة لهجمات مباشرة دون أى احتلال برى.
الردع فى الحرب لم يعد يعتمد فقط على عدد الدبابات أو الرؤوس النووية. هناك الآن موازين جديدة: من يمتلك «سربًا ذكيًا» من المسيّرات يمكنه فرض معادلة ردع فعالة دون أن يطلق طلقة واحدة من بندقية تقليدية.
لم تعد الدول فقط هى من تملك القوة الجوية. يمكن الآن لجماعات غير نظامية وميليشيات، وحتى أفراد، امتلاك مسيّرات قادرة على تنفيذ عمليات عالية التأثير، مما يضع الدول أمام معضلات أمنية جديدة. لقد غيّرت المسيّرات بشكل لا رجعة فيه مفاهيم الحرب التقليدية. المسيّرات أعادت توزيع موازين القوة، ومكّنت الضعيف من مقارعة القوى. العالم يتغير.