بقلم : فاطمة ناعوت
تذكّرتُ الأغنية الشهيرة التى كتبها وغناها «ليونارد كوهين» ويقول فيها: There›s a Crack in everything، that›s how the Light gets in. فلولا الشقوق فى الجدار، وفى الحياة كذلك، ما تسلل النورُ إلى عيوننا وأرواحنا.
هذا المقال أكتبه لأقدّم التحية لمعلمات محترمات أدركن المعنى الحقيقى لمهمّة التعليم والتربية، وأقول «مُهمّة» لا «مِهنة»؛ لأنها رسالةٌ ثقيلة ترقى إلى رسالات الرُّسل، لا محض وظيفة يؤديها المرءُ ليتقاضى عليها أجرًا.
فيديو قصير صادفنى كنسمةٍ حلوة وسط صحراء العالم، عن معلّمةُ أخرجت تلميذًا صغيرًا من الفصل، ثم انفتح أمامَه بابُ الحب. دخل القاعة المجاورة ليجد زملاءه يحيطونه بالشموع ويغنّون أغنية عيد الميلاد، وفى خلفية المشهد تقف المعلمة تحمل التورتة عليها اسمُه. هكذا رتّب الجمعُ الطيب لهذا الطفل اليتيم «لحظة أمومة» لم يعشها منذ رحلت أمُّه عن العالم. اختارت المعلمة أن تأخذ مكان الأم الغائبة، ولو لدقائق منزوعة من يوم دراسى، لتملأ بالنور تلك الشقوق التى تكوّنت فى قلب الطفل اليتيم. التعليم قد يكون وظيفة، أمّا التربية فهى رسالةُ استدعاءٌ للرحمة من أعماق القلب لتصنع هالةً من النور فوق رؤوس الصغار.
ومن يَنَل الرحمةَ فى طفولته، من العسير أن يضنَّ بها على الناس حين يكبر. ذلك الصبى لن ينسى هذا اليوم. قد ينسى جملةً نحوية أو معادلة حسابية، لكنه لن ينسى أنّ امرأةً واحدة جعلته يشعر أنّ العالم ليس مكانًا عدائيًا، بل ساحةٌ للحب والحنوّ. تلك الذكرى الصغيرة ستُنبت داخله رجلاً نبيلا، يعرف كيف يمدّ يده فى مقبل الأيام إلى طفلٍ آخر، وكيف يضيء شمعةً فى عتمةٍ مماثلة.
ليتنى أعرفُ اسم هذه المعلمة أو جنسيتها، لكننى أحيّى فى شخصها كلّ من يشبهها من عظماء التعليم. ومن عمق التاريخ نستدعى «آنا سوليفان»، التى لم تكتفِ بتعليم الطفلة الكفيفة الصمّاء «هيلين كيلر» القراءة والحساب والفيزياء، بل علّمت العالمَ بأسره أن «النور» يُرى ولو فُقد البصر، لأنه يبحث عن الشقوق والصدوع والكسور لكى يتسلل وينساب مثل جداول رقراقة من البهاء النقى.
ومن الريف المصرى فى مطلع القرن الماضى، نستدعى أسماءً سبقت الطريق إلى تعليم البنات ودفعت كُلفة التغيير من أعصابها وسمعتها ودموعها فى زمن كان يرى تعليم البنات مَعّرةً وهوانًا. «عائشة التيمورية» رفعت فى نهايات القرن التاسع عشر شعار: العلم للمرأة، وتلحقها «زينب فواز» بقلمٍ شرس يفضح التجهيل ويؤرخ لسِيَر العالمات، ثم «ملك حفنى ناصف» فى بدايات القرن العشرين ثم «نبوية موسى»، التى حولت الفكرة إلى حركة مؤسسية وفتحت أبواب مدارس البنات على مصاريعها. أولئك الرائدات العظيمات لم يطرقن أبواب البيوت المعتمة وحسب، بل طرقن أبواب العقل، لكى يصير الحرفُ حقًّا اجتماعيًا معلنًا، بعدما كان سرًّا تبوح به البنات لبعضهنّ تحت ضوء مصباح كيروسين، وتخفيه عن الألسن التى تخشى من نور المعرفة.
ومن صفحات التاريخ تتلألأ أسماءٌ ناصعةٌ حملت مشاعل التعليم كقبسٍ من ضوء الخليقة. فهذه اليابانية «آنّا بورى» التى جابت قُرى الريف اليابانى بعد الحرب العالمية الثانية، تُعلّم الأطفال تحت السقوفٍ المهدّمة؛ لأن المعرفة عندها أسبق من السكن. و«مارى ماكلويد بيثون» التى أسست عشرات المدارس للملونين فى أمريكا، مؤمنةً بأن العدالة تبدأ من مقعدٍ صغير فى فصلٍ، وخُلّد اسمها فى نُصب تذكارى فى واشنطن. وفى الهند نذكر «سابيتريباى فولى»، أول معلّمة تُناضل لتعليم الفتيات الفقيرات عام ١٨٤٨ وتعرّضت للبصق والسباب من الطبقات العليا، التى كانت آنذاك تحتقر الطبقات الدنيا وتنبذها.
ومن مصر الراهنة، لابد أن نتذكّر المعلمة المسيحية الجميلة التى منعت الغشَّ فى لجنة الامتحان، ولا أريد أن ألوّث ضوء هذا المقال بسرد تفاصيل ما فعلته بعض الأمهات الغافلات حين اعتدين عليها لفظيًّا وجسديًّا، بل وسببن دينها بألفاظ منحطّة رقيعة. ولولا تدخّل الأمن لفتكن بها. وكم كنتُ أرجو أن تُكرَّم هذه المعلمة المحترمة من وزير التعليم شخصيًّا ويُردُّ لها اعتبارها إعلاميًّا، وأن تُحاكم الأمهاتُ المعتديات بتهمتين. الأولى: التعدى على موظف محترم أثناء تأدية وظيفته، والثانية بموجب المادة: ٩٨ (و) المعروفة بـ: «ازدراء الأديان»، التى يُلاحق بها المفكرون دون سبب! وطالبتُ بهذا فى «منتدى القيادات النسائية»، ورحّبت العضواتُ، ولكن شيئًا لم يحدث بكل أسف. وليتنى أعرف اسمَ المعلمة الجميلة لأعتذرَ لها وأرسلَ باقة زهور.
نماذجُ متباعدة فى الجغرافيا، متقاربة فى الروح: معلّماتٌ فهمن أن الحرفَ ثورة، وأن النور صنوُ النبل والقيم. ليت المعلّمين يدركون أن الطفل ليس رقمًا فى كشف الحضور، ولا رأسًا فارغًا نحشوه بالمعلومات ليسكبها فى ورقة الامتحان ثم ينساها. بل هو كوكبٌ صغير يحتاج من يلمّع نوره، لا من يطفئه بالقسوة والتجهيل ونزع القيم من الضمير.