البابا غاسلُ أقدامِ الكادحين

البابا... غاسلُ أقدامِ الكادحين

البابا... غاسلُ أقدامِ الكادحين

 العرب اليوم -

البابا غاسلُ أقدامِ الكادحين

بقلم : فاطمة ناعوت

«البابا»... ليس مجرد لقبٍ كنسىٍّ، بل نداءٌ يشى بالحُنوِّ والرأفة والملاذ والسند، والصلاة من أجل جميع المأزومين والضعفاء فى هذا العالم، دون تمييز أو إقصاء، فجميعهم «إنسان». فلسفة لقب «البابا»، بـ«ال» التعريف، هى لا محدودية الزمان والمكان؛ أى لا تُحدّه جغرافيا، ولا تحبسه عقيدةٌ. لأن الأبوةَ لا تسألُ عن الهُوية، بل تحتضن «الإنسانَ» لكونه إنسانًا. فإذا سُمّى رجلٌ «البابا»، توجَّب عليه أن يكون ملاذًا ومِظلّة، ويَدًا تمسحُ الدمع، وقلبًا يسع الجميع، بلا تفرقة. وإن كانت السُّلطةُ فى الأرض تُخيفُ، فإن سلطةَ «البابا» تُطمئن، لأنها تستمد قوتها من الضعفاء، وتُشكّلُ مجدَها من التواضع.

لكل هذا كان للبابا «فرنسيس»، رحمه الله، نصيبٌ كامل من لقبه. فهو الأبُ الذى يحنو على الخاطى، والذى يوجّه ويُقوِّم، والذى يرأفُ بالضعيف والمكلوم.

لهذا أكتبُ اليومَ لأرثى «البابا فرنسيس» الذى تشرفتُ بلقائه فى مصر الطيبة وربَّتَ على رأس ابنى المتوحّد «عمر» داعيًا له بالشفاء. لم يقل: لماذا أدعو لمسلم ابن مسلمة وأنا رأسُ كنيسة عالمية؟! لم يقل: أولئك مصريون وأنا أرجنتينى إيطالى فاتيكانى؛ فما شأنى بهم؟! لم يفكّر فى شىء غير أنه أمام أمٍّ حزينة على صبىٍّ لا يقدر على مواجهة هذا العالم القاسى وحيدًا، فصلّى من أجله.

رحماتُ الله عليكَ أيها الأب الطيب الذى مشى على الأرضِ هَوْنًا خفيفًا، لا يحملُ إلا نورَ المحبةِ وصلواتِ المساكين، وقال للعالم «سلامًا». الرجل الذى طأطأ رأسَهُ أمامَ الجوعى والمعوزين، وأشرق وجهُهُ بِشرًا حين صافحَ المرضى والعميان والغرباء. الأبُ الجميل الذى أحبَّ الناسَ كما هم، لا كما يُرادُ لهم أن يكونوا، ونادى بالسلامِ فى زمنٍ قاسٍ يتغذى على الجدران والأسلاك والدماء.

منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلى الغاشم على غزة، لم يتردد البابا «فرنسيس» لحظةً فى استخدام كلمته كسلاح رحمةٍ ماضٍ فى وجه سفاح أعمى. ندَّد مرارًا بكل حسم باستهداف المدنيين والأطفال والنساء والمستشفيات والمدارس. وقف فى ساحة القديس بطرس وهتف: «كفى! أوقفوا هذه الحرب! لا مبرر لقتل الأبرياء.

كل طفل يُقتل هو هزيمةٌ للإنسانية». قال هذا بنصوع ودون مواربة فى وقت تجنّب فيه كثيرون من زعماء العالم الغربى استخدام كلمة «غزة»، أو الإشارة المباشرة للضحايا من أبنائها! كان البابا «فرنسيس» يسمى الأشياء بأسمائها دون حسابات ولا موازنات ولا مجاملات. وكان يصلى كل يوم من أجل الفلسطينيين، والضحايا فى جميع أرجاء الأرض، ويُذكّر العالمَ الغافلَ بأن «العدالة لا تعرفُ الانتقائية، وأن الضميرَ لا يخضعُ للتسييس».

ومثلما كان من أوائل مَن نددوا بالعدوان الصهيونى على «غزة»، كانت مأساةُ «فلسطين» حاضرةً فى آخر كلمات قالها قبل رحيله عن عالمنا: «يجب وقف إطلاق النار فورًا، وإطلاق سراح الرهائن، وتقديم المساعدة لشعب فلسطين الذى يتضوّر جوعًا ويتوق إلى مستقبل يسوده السلام».

كان البابا «فرنسيس» رجلَ «لقاء». أى أنه يُجيد بناء الجسور بين الناس، لا الجدران والحواجز. يسعى للحوار، ويؤمن بأن التفاهم هو السبيل إلى السلام، مهما كانت الاختلافات الدينية أو الثقافية أو السياسية. لم يعش البابا «فرنسيس» فى برجه العاجى كزعيم روحى ورمز عالمى ورقم صعب فى سلطة العالم، بل كان يجول يصافحُ الكادحين، ويجالس المهمَّشين، ويتحدث إلى الناس من منبر «الإنسانية» قبل العقيدة؛ إيمانه بأن كل إنسان يستحق أن يُسمَع. ظلَّ يسعى لخلق مساحات تلاقٍ بين الأديان، وبين الأغنياء والفقراء، وبين الكنيسة والعالم بأسره بكل ما يحمل من هموم ومشاكل وعنصريات وحروب.

زار العراق عام ٢٠٢١ حاملًا رسالة سلام لأرض أنهكتها الحروب والطائفية. التقى بالمرجع السيستانى فى النجف، وزار الموصل التى دمّرها تنظيم داعش، ووقف وسط الخراب وهتف: «الأخوّة أقوى من القتل». وعام ٢٠١٩ وقّع مع شيخ الأزهر الشريف «وثيقة الأخوّة الإنسانية» فى أبوظبى، فحواها: «أن كل البشر إخوة، وأن الأديان يجب أن تكون جُسورًا لا حواجزَ».

وهو الذى دافع عن اللاجئين والمهاجرين العرب، ودعا إلى فتح الأبواب لا إغلاقها. وحين زار جزيرة ليسبوس اليونانية، عام ٢٠١٦، لتسليط الضوء على معاناة اللاجئين فى مخيم «موريا»، عاد إلى الفاتيكان مصطحبًا عائلات لاجئة على متن طائرته الخاصة. وفى «خميس العهد» من كل عام، كان البابا «فرنسيس» يكسر الصورة التقليدية لجلال المنصب الرفيع يخرج من أبهاء الفاتيكان إلى هوامش المجتمع يغسل أقدام الفقراء واللاجئين المسلمين، مثلما فعل السيد المسيح مع تلامذته.

برحيل قداسة البابا «فرنسيس»، تُطوى صفحة مشرقة فى تاريخ العالم. فقد كان أكثر من قائد دينى للكنيسة الكاثوليكية؛ كان ضميرًا حيًّا للإنسانية، وصوتًا جسورًا للرحمة والعدالة فى عالم تهيمنُ عليه الانقساماتُ والمصالح. فلنطلب جميعًا له السلام الأبدى والرحمة، مثلما عاش حياته يطلبهما لنا جميعًا دون تمييز.

arabstoday

GMT 08:43 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

سيد الأمم المتحدة

GMT 08:05 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا!

GMT 07:48 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

شمس بنيامين نتنياهو المتمددة الحارقة

GMT 07:21 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

ذكرى «البيجر» وعبرة الأيام

GMT 06:07 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

الفرقة الموسيقية أقوى من صوت كل عازف منفرد

GMT 06:05 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

إسرائيل... وأوان مواجهة خارج الصندوق

GMT 05:52 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

الإسورة ساحت!

GMT 05:48 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

مدن بلا سكان

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

البابا غاسلُ أقدامِ الكادحين البابا غاسلُ أقدامِ الكادحين



رحمة رياض تتألق بإطلالات صباحية أنيقة وعصرية تناسب أجواء الخريف

بغداد ـ العرب اليوم

GMT 05:11 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

إسرائيل والزمن

GMT 06:05 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

إسرائيل... وأوان مواجهة خارج الصندوق

GMT 04:18 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

ترامب يفرض رسومًا جديدة للحصول على إتش- 1 بي

GMT 13:52 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

هل يوقظ شَيْبُ عبدالمطلب أوهام النتن ياهو ؟!

GMT 03:19 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

النفط دون تغير يذكر وسط مخاوف بشأن الطلب

GMT 03:38 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

سلسلة انفجارات متتالية تهز مدينة غزة

GMT 03:23 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

«أبل» تستعد لإطلاق أرخص «ماك بوك» في تاريخها
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab