«الشيخ والفيلسوف» حوارٌ على الحافّة

«الشيخ والفيلسوف».. حوارٌ على الحافّة

«الشيخ والفيلسوف».. حوارٌ على الحافّة

 العرب اليوم -

«الشيخ والفيلسوف» حوارٌ على الحافّة

بقلم : فاطمة ناعوت

«الشيخ والفيلسوف» للكاتب الإصلاحى «شريف الشوباشى»، الصادرة عن دار «الياسمين»، ليست رواية بالمعنى الكلاسيكى، بل حوارٌ مطوّل، يُذكّرنا بمحاورات «أفلاطون» التى استنطق فيها «سقراط» ليناقش، عمدًا، أمورًا بديهية، ثم يحفرُ فى البديهيات تدريجًيا من أجل الوصول إلى أشدّ الأمور إشكاليةً وتعقيدًا واشتباكًا. كتابٌ هادئٌ لا يبحث عن الإثارة، ولا يتغذّى على الصدام، بل يحاولُ بوعى بناءَ مساحة آمنة للحوار والتأمل والمراجعة، مكتوبٌ بقلم يدرك أن العنف لا يبدأ بالسلاح، بل بكلمة تُقصى الآخر.

الكتابُ لا يناقشُ «الدين»، بل «رجل الدين»، ولا يناقشُ الفلسفةَ بل حاملَها. فلم يدخل «الشوباشى» ساحة الدين والعقل كمحارب، بل كحَكَمٍ بين طرفين يقول: هيّا نفهم قبل أن نُدين. وهذا الخيارُ الأخلاقى، وإن بدا محافظًا، يُعدُّ موقفًا جسورًا فى سياق مأزوم بالاستقطاب والعنف والأحادية. جاذبيةُ الكتاب فى رسم الشخصيات بموضوعية وأناقة. لم يُعملِق ولم يُقزِّم، لم يُؤَسطِر ولم يُشَيطن. حتى البطل المحايد «مصطفى» طالب العلم الذى يُجلُّ المتحاوريْن: «الشيخ والفيلسوف»، ويُحبُّهما بنفس القدر، لم يُظهر الكتابُ مَيلَه لأحد على حساب الآخر. وكنتُ أتمنى أن تتدخّل «آية»، شقيقةُ البطل، فى الحوار، لنُنصِت إلى صوت المرأة فى هذا الحوار؛ فيغدو أكثر ثراءً. المتحاوران: الشيخ والفيلسوف، رمزان لصوتين تاريخيين يتعاركان داخل وجدان الثقافة العربية وعقلها.

لا يهدف الكتابُ إلى إلغاء أحدهما، بل إلى إظهار إمكانية التعايش بينهما دون أن يُفنى أحدُهما الآخر. وهنا تكمن رهافة المشروع.

لغةُ الرواية هادئة، خالية من الاستفزاز، أقرب إلى نبرة الحكيم لا نبرة الثائر. وقبل أن تؤاخِذ برودتَها الدرامية، تكتشف أنها اللغة التى تمنح القارئ الشعورَ بالأمان الفكرى. لا أحد يسخر من الآخر، ولا أحد يرفع صوته. الكل يُصغى. وكأن الكاتب يقول: هكذا «فقط» يمكن للأفكار الثقيلة أن تُقال.

«الشيخ» فى الرواية ليس صورة نمطية للواعظ المنغلق، بل رجلُ عقل، يرى فى الدين مساحة أخلاقية للمعنى، لا أداةَ قمع. و«الفيلسوف» ليس متعاليًا، بل إنسانٌ يبحث عن الحرية والمعرفة دون ازدراء للإيمان. هذا التوازن المقصود يجعل الرواية أقرب إلى دعوة للمصالحة منها إلى مناظرة لكسب النقاط. وقد يُلامُ الكتابُ لأنه لا يذهب بأسئلته إلى الحافّة، ولا يجرُّ الشخصيات إلى الانكسار، ولا يسمح للقلق الوجودى بأن يبلغ ذروته. لكننى أظنُّ أن «الشوباشى» أراد أن يقول إن الحكمة ليست فى الصراخ، ولا كل الحقيقة تكمن فى الجرح. الرواية لا تسعى إلى زلزلة اليقين، بل إلى عقلنته. لا تريد هدم المعبد، بل فتح نوافذه ليدخل الضوء. وهى بهذا المعنى ليست رواية أزمة، بل صوت الطمأنة الفكرية وسط ضجيج القلق الجمعى. قيمة الكتاب ليست فى السؤال، بل فى أسلوب طرحه، والإصرار على أن الخلاف لا يستلزم العداء، وأن العقل يمكن أن يرافق الإيمان دون أن يشعر أىُّ منهما بالتهديد. رواية نظيفة اللغة، إنسانية المقصد؛ تُقرأ ببطء، وتُقدَّر على مهل. لا تصفع القارئ ولا تُربكه، بل تضعُ يدَها على كتفه. وهذا ما نحتاجُ تذكّرَه: أن الحوار العاقلَ فضيلةٌ عصيّة. «الشيخ» فى الرواية ليس فردًا بقدر ما هو موقف، و«الفيلسوف» ليس إنسانًا بقدر ما هو أطروحة. وهذه أول مفارقة فى السرد: روايةٌ بلا فردانية وشخصنة؛ أقربُ إلى تمرين ذهنى منها إلى مغامرة وجودية. لذلك اختار لغة مهذبة، خالية من العنف الرمزى. الجميع عقلاء، متزنون، مستعدون للإنصات. وهذا يُخالف تاريخيًّا مسارَ الفلسفة والدين. فالفلسفة لم تتقدّم بالحوار، بل بالشرخ والقلق.

«سقراط» لم يكن مبتسمًا، «سبينوزا» لم يكن مطمئنًا، «نيتشه» لم يكن وديعًا، وحتى المتصوفة، حين بلغوا ذُرى الصفاء الروحى، مرّوا أولًا بجحيم القلق والعذاب. أمّا فى رواية «الشيخ والفيلسوف»، فالنقاشُ يدور فى غرفة معقّمة، خالية من الخطر.

«الشيخ» فى الرواية ذكى، متسامح، خفيف الظل غير متزمت. و«الفيلسوف» إنسانى، غير عدائى، ولا يزدرى الإيمان. هذى المثالية الأخلاقية، ربما أفقرت الصراعَ الدرامى الذى لا ينشأ إلا بين رؤيتين تُهددان بعضهما بعضًا فى العمق. ما الذى يخسره الشيخُ إن انتصر الفيلسوفُ؟ وما الذى يخسره الفيلسوفُ إن انتصر الشيخ؟ الإجابة: لا شىء. وكأن الكاتبَ يريدها معركة Win-Win Battle.

نجحت الرواية فى طرح أسئلة: الحرية، الإيمان، الخوف من الموت، ومعنى الحياة بعد انكسار اليقينيات الكبرى. لكنها لم تمض بتلك الأسئلة إلى نهاياتها المؤلمة. كلُّ سؤال يُسحب قبل أن ينزف. كلُّ قلق يُرمَّم قبل أن يجرح. وهنا نلمح بوضوح شخصية «الشوباشى» المثقف الأنيق، وهو يجلس إلى مكتبه ليخطَّ رواية ذكية، نظيفة، شريفة المقصد، لا تكسر الجدارَ بل تطرقه برفق. رواية تفتح باب الحوار دون صراخ. تُذكّر بأن العقل والدين ليسا أعداء، بل هما فقط نسيا نقاط اللقاء.

arabstoday

GMT 12:15 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

نهاية حزينة لشارع الحمرا…

GMT 12:01 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

نتنياهو… إيران أولاً ودائماً… لماذا؟

GMT 11:46 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

القلعة الجوفاء: بعدما هدأ غبار الهجوم على إيران

GMT 11:41 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

«الست» أيضاً

GMT 11:39 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

تغيير الحدود ومواعيد نتنياهو

GMT 11:32 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

تعقيدات الهُويَّة وأنثروبولوجيا إسلام الخارج

GMT 11:29 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

هل «الموديل» الغربي مُقدّس؟

GMT 11:18 2025 الإثنين ,22 كانون الأول / ديسمبر

لبنان وغزة... إدارة النزاع بدل إنهائه

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«الشيخ والفيلسوف» حوارٌ على الحافّة «الشيخ والفيلسوف» حوارٌ على الحافّة



أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 01:44 2025 السبت ,20 كانون الأول / ديسمبر

ترامب يوقع قانون الدفاع الأميركي بقيمة تريليون دولار

GMT 06:37 2025 السبت ,20 كانون الأول / ديسمبر

طيران حربي واستطلاعي فوق سماء ريف حمص

GMT 23:26 2025 الجمعة ,19 كانون الأول / ديسمبر

الأهلي السعودي يستقر على رحيل ماتيو دامس لضم ماتياس

GMT 06:34 2025 السبت ,20 كانون الأول / ديسمبر

قوات الاحتلال تنفذ عملية عسكرية داخل الخط الأصفر
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab