«فيروز» ما نجا منّا

«فيروز».. ما نجا منّا

«فيروز».. ما نجا منّا

 العرب اليوم -

«فيروز» ما نجا منّا

بقلم : فاطمة ناعوت

فى تلك اللحظات التى يضيق العالمُ بنا، ونضيقُ به، نبحث عمّا يذكّرنا بأنّ فى الإنسان بقيةً صالحة لم تُستنزَف بعد. بعضنا يلوذ بالوحدة، بعضنا يعتمرُ الصمتَ، بعضنا يقصدُ الطبيب النفسى، وفريقٌ، مثلى، نقصد «فيروز». نضغط زرَّ «إنقاذ الروح»، فيغنّى الهواءُ نغمًا ينتشلك من القنوط ويعود بك طفلا لم يعرفِ الحَزَن. صوتُها لا يعِدُنا بأن الأمور ستتحسّن، لكنه يذكّرنا بأنّنا لسنا وحدنا فى هذا العالم، وأن هناك من سقط مثلنا ونجا، وترك لنا خارطة النجاة فى أغنية.

حين يضربنى الحنينُ إلى مصرَ، ذات سفر، أذهب إلى «أم كلثوم» و«عبد الوهاب». وحين يضربنى الحنينُ إلى الإنسانية والطفولة، أُنصِتُ إلى «فيروز». وأنا لا أعرف «فيروز» من عدد الألبومات ولا من تواريخ الحفلات، بل من تلك اللحظة القديمة التى انفتح فيها الصبحُ فى بيتنا على صوتٍ يطلُّ من الراديو، فيتّسع البيتُ ليصيرَ حديقةً مترامية، ويتّسع قلبى ليغدو بمساحة الكون. منذ ذلك اليوم، صارت «فيروز» جزءًا من «الُمناخ»، مثل الضوء والهواء، لا ننتبه إليه إلا إذا اختفى.

«فيروز» ليست صوتًا جميلًا، وفقط. مَن يراها هكذا لا يعرف أين تُخزّن الروحُ براهينَها. بل هى اختبارُ الإنسان كلّ صباح: أما زال فى القلب مكانٌ للبراءة؟ أما زال فينا ما يكفى من الطيبة لنصدّق أن العالم، رغم كل شىء، قادر على أن يلمع ويشرق؟ صوتُها يختبر الجزءَ الأكثرَ رهافةً منّا، الجزء الذى يُصرّ على أن يصدّق أنّ «الخير» ممكنٌ وأن «الجمال» قائمٌ لا يذوى؛ مهما علت أمواجُ القبح فى عالم يتقاتل من أجل الصغائر. حين نسمعها نكتشف أن داخلنا طفلًا واقفًا عند النافذة، يراقب المطرَ بدهشة. طفلٌ لا يفهم السياسة، ولا يعبأ بأسعار الدولار، لكنه يوقن أن فى الغيم وعدًا وفى قطرات المطر لآلئ منثورة فى السماء.

غنّت عن الطاحونة، عن النبع، عن الطيارة الورقية، عن القمر الذى تسرقه البنات، عن النوافذ التى تنظر إلى الجبل، عن الأطفال الذين اختبأوا من الزمن ونسوا أن يكبروا. غنت لبيروت، ومصر، والقدس البعيدة، لكننا فى كل مرّة نسمع سيرتَنا نحن، لا سيرة الأماكن، ونتساءل: من أين يأتى هذا الضوء؟! أسطورية «فيروز» أنها تحوّل الجغرافيا إلى حالة شعورية. بيتها ليس فى «أنطلياس» أو فى «الروشة»، بل فى تلك المسافة الدقيقة بين القلب والذاكرة، حيث تختلط روائح القهوة بنشرات السادسة صباحًا، ويمتزجُ صوتُ الأمهات وهنّ يجهزن لنا الحقائب المدرسية بزمير بوق الباص تحت البيت، لنعرف أن يومًا جديدًا مليئًا بالفرح والمعرفة فى انتظارنا.

نحن الذين تكسِرُنا الحروبُ وتُحزِنُنا الصراعاتُ، وتُربكُ أرواحَنا الطائفياتُ والعنصرياتُ والظلمُ والمكائدُ والبغضاء، نعرفُ أن لا شىء يداوى العالم مثل الصوت الذى لا يجرح أحدًا. الصوت الذى يشبه يدًا تربّت على كتفك، لا لتهوّن عليك، بل لتذكّرك بأنك كنت يومًا طفلًا يستطيع أن يثق بهذا العالم.

عرفتْ «فيروز» كيف تكون مُحايدةً ومُنتميةً فى آن واحد؛ وتلك مَلَكةٌ نبيلة لا يملكها إلا ذوو العزم. وقفت فوق جراح الطوائف والحروب، لم ترفع سلاحًا، بل رفعت طبقة الصوت إلى «الجواب»، فهدأت حولها أصواتُ البنادق وهبطت إلى «القرار». لم تقل لنا مَن على حقّ ومن على باطل، بل سألت سؤالًا آخر: ما ثمن أن نخسر إنسانيتنا ونربح السجال؟ لهذا صارت «فيروز» مرجعًا عاطفيًّا لوطنٍ لم يعد يثق كثيرًا فى المراجع.

الأكثرُ إدهاشًا فى «فيروز» أنها تمنحك ذاكرة جديدة ليست لك. ذاكرة مدينة لم تعشْها، وطفولة لم تُخبّئ لك ألعابها، وفجرٍ لم تنتظره فى بستان يطلّ على جبل. ومع ذلك تشعر أنه كله ملكك. هكذا تعمل الأسطورة: تستعير منك جرحك، ثم تعيده إليك فرحًا وبراءة كأنك قابلت نفسك بعد غياب طويل.

نحن، الذين فتحت «فيروز» عيونَنا على أوّل فكرة عن الجمال، نحن الذين كبرنا وتغيّرت ملامحنا، ونضجت أفكارنا، مازلنا نحفظ الطبقة الموسيقية نفسها التى تدخل القلبَ وتخرج دون إذن. هذا ما يجعلها بالنسبة لنا مقياسًا للزمن: نقيس أعمارنا بكيف تغيّر معنى أغنياتها فى وعينا من مرحلة إلى أخرى.

حين منحتنى «رابطة إحياء التراث العربى» فى سيدنى الأسترالية جائزةَ «جبران للإنسانية» عام ٢٠١٤، اخترتُ أن أتقلّد وسامَ «جبران» الذهبى يوم عيد ميلاد فيروز ٢١ نوفمبر. لا أدرى ما الرابطُ بين «فيروز»، و«جبران خليل جبران». ربما الطفولة، ربما نُشدان عالمٍ أكثر جمالا وهدوءًا، لا حروب فيه ولا صراعات، ربما النزوع للمحبة التى لا تسقط، وربما لأننى ابنةٌ لصوت «فيروز»، وأدب «جبران».

فى عيد ميلادها أقول لها: أنتِ ما نجا منّا من لطف، وعذوبة وبراءة. صوتُك لم يَعِدْنا بالمعجزات، لكنه منحنا رفاهيّة أن ننهزم دون أن نسقط.

arabstoday

GMT 10:48 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

الداعية «قفة» وأبناؤه

GMT 10:19 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

عرش ترامب!

GMT 10:17 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

التعليم وإرادة الإصلاح (1)

GMT 10:12 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

حكاية الميلاد التي تجمع ولا تفرّق

GMT 10:11 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

الظهيرُ الشعبي للمايسترو «محمد صبحي»!

GMT 10:07 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

الكرة والحداثة

GMT 10:03 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

السن.. والعمر !

GMT 10:02 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

حنظلة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«فيروز» ما نجا منّا «فيروز» ما نجا منّا



أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 17:13 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

رياض محرز يسجل أسرع هدف في كأس أمم أفريقيا 2025

GMT 15:14 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

جوزيف عون يؤكد إجراء الانتخابات استحقاق دستوري

GMT 08:52 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

فايزر تعلن وفاة مريض وُضع تحت اختبار دواءهيمبافزي

GMT 09:40 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

وفاة لاعب كرة قدم وسط مباراة رسمية بسبب تميمة سحرية

GMT 08:15 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

مسيرة إسرائيلية تستهدف وسط بلدة حولا جنوبي لبنان

GMT 19:52 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

وفاة أحمد عبد الوهاب الابن الأصغر لموسيقار الأجيال

GMT 09:37 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

شهيدان بغارة إسرائيلية على حافلة في الهرمل شرقي لبنان

GMT 19:39 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

قادة الأسد السابقون يحاولون استعادة نفوذهم في الساحل السوري

GMT 13:39 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

خبيرة أممية تحذر من ظروف احتجاز زوجة عمران خان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab