بقلم : فاطمة ناعوت
«أين نحن من الرسالة؟» سؤالٌ أطلقه وزيرُ الأوقاف الدكتور «أسامة الأزهرى» فى كلمته الرفيعة بمناسبة «المولد النبوى الشريف»، فكان كجرسٍ مدوٍّ يوقظ الضمائر، ويفتح باب المحاسبة أمام أمّة تحتفل بميلاد صاحب الخُلق العظيم بينما واقعها مثخن بالتشرذم والانقسام والشكلانية التى تغفل عن «الجوهر».
احتفال هذا العام بالمولد النبوى له خصوصية نادرة. ففى عام ١٤٤٧ هجريًا، نقف على عتبة رأس المائة الخامسة عشرة للهجرة، التى بشّر بها الحديث الشريف: «إن الله يبعثُ لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدّد لها دينها». وإذ نقترب من إتمام ١٥ قرنًا على مولده الشريف، تتذكّر الأمة الإسلامية أنها أمام محطة فاصلة لمراجعة النفس وتجديد الروح. هذا التزامن أضفى فرادةً للمناسبة، وجعل من خطبة الوزير بيانًا فكريًا يرسم للأمة خارطة طريق نحو المستقبل، تتكئ على أعمدة ثلاثة: التجديد، الأخلاق، الإحسان. فالتجديد يحرّر العقل من الجمود، والأخلاق تحرّر السلوك من التدنى، والإحسان يرفع الأداء إلى مستوى الإبداع. إنها ثلاثية الترقى لأمّة تبحث عن ذاتها فى زمن التيه. بعد عقودٍ مُثقلة بالصراع مع فكر الإرهاب الذى فتّت دولًا ودمّر شعوبًا، جاء صوت الوزير ليذكّر بأن مواجهة الظلام لا تكون إلا بالتجديد. وأشار إلى الفارق بين «الحديث عن التجديد» فى المؤتمرات، وممارسته بالفعل. فالأول كلام يردَّد، أما الثانى فصناعة عسيرة. التجديد ليس شعارًا يُرفَع، بل منظومة تعليمية ومعرفية تقتضى التبحّر فى علوم الشريعة، والإحاطة بعلوم الواقع، والقدرة على وصل الاثنين وصلًا منتجًا وواعيًا. عندها فقط يُولد جيلٌ مثقفٌ يملك أدوات تفكيك أزمات العصر، بوسعه مواجهة الغلوّ والانغلاق بوعى ومعرفة. واستشهد بمقولة الشيخ «محمد أبو زهرة»: «التجديد هو أن يُعاد الدين إلى روحه، ويُزال عنه ما علِق به من أوهام، ويُبيَّن للناس صافيًا كجوهره النقىّ فى أصله». المحور الثانى فى الخطبة كان «الأخلاق». فأشار الوزيرُ إلى أن أكثر من ثلثى الأحاديث النبوية، بعد غربلة المكرَّر، تدور حول «الأخلاق والآداب والفضائل والأدب والذوق الرفيع فى جميع تفاصيل الحياة»، بينما لا يتجاوز الثلثَ ما يتصل بالفرائض والشعائر.
هذى النسبة تكشف أن الرسالة المحمدية أخلاقيةُ الجوهر. هنا أطلق الوزيرُ تساؤله الصاعق: «أين نحن من ذلك؟!». سؤالٌ يضعنا نحن المسلمين أمام مرآة قاسية، فهل يحق لنا أن نحتفل بالمولد الشريف بينما نقصِّر فى حمل جوهر رسالته؟! فالأخلاق ليست مكمّلات للدين، بل هى روحُه. وقسّم الوزيرُ منظومة الأخلاق إلى شقّين متكاملين: قيمُ البقاء التى تحفظ الإنسانَ والمجتمعات من التآكل والاندثار، مثل: الصبر والصفح والعفو والبرّ، وقيم الانطلاق التى تدفع الأمم إلى العمران والمدنيّة وبناء المؤسسات وصناعة الحضارة، مثل: الإبداع والإتقان والابتكار وتعظيم العلم وتعارف الحضارات وصناعة الجمال الذى يحبه الله، وبناء العقول ونكران الذات والترقى والتعلق بصناعة القيم العليا. فتلك أعظمُ مقاصد الشريعة، والشرارة التى تُبقى المجتمعات حيّة وقادرة على تجاوز الأزمات. وتساءل الوزيرُ: «أين أنتم أيها المسلمون من كل هذا؟ أين أنتم أيها العلماء والفقهاء؟ أين أنتم أيها الخطباء والدُّعاة؟». سؤال عصىّ يُحاصر الضمير الجمعى ويذكّر بأننا ما زلنا قاصرين عن حمل جوهر الهَدى النبوى الذى سنُسأل عنه يوم القيامة. ثم أكد الوزير على أن الفرصة ما زالت قائمة للاستدراك، والعمل، والوفاء برسالة العدل. ومن هنا انتقل الوزير ليؤكد أن العدالة ليست وعظًا، بل التزام عملى برفض البغى والعدوان، مشيدًا بالموقف المصرى متمثلًا فى الرئيس «عبدالفتاح السيسى» الرافض لتهجير الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم، والداعم لحقهم الأصيل فى إقامة دولتهم المستقلة على حدود ٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية.
القضية الثالثة التى أبرزها الوزير هى «الإحسان»، الذى يتجاوز الإتقان إلى العطاء الممزوج بالمحبة والرضا. هنا يتحوّل أداءُ الواجب من فعل ثقيل إلى فعل جمالى، يتفننُ فيه المرءُ ويبدع؛ فيغدو الإحسانُ قيمة حضارية تُثرى العلاقات الإنسانية، وتجعل من الحياة ساحة جَمال لا ساحة كَدّ. قد يتصدق المرء وهو ضجِر، لكن الإحسان أن يتصدّق بفرح؛ فيغدو قيمة عليا، تجمع بين جمال الروح، ورقى السلوك، وإتقان العمل. وهو ما نحتاجه فى مؤسساتنا، فى عمراننا، فى صناعتنا للعلم والفكر والفن.
جعل وزير الأوقاف من ذكرى المولد الشريف هذا العام محطة مراجعة، لا مجرد طقس احتفالى. مراجعة تبدأ من عقولنا، وتمرّ بقلوبنا، وتنتهى بأيدينا التى تبنى وتزرع وتكتب وتصنع. فإذا نجحنا فى أن نحيا بروح التجديد، ونسلك سلوك الأخلاق، ونتقن صنعة الإحسان، نكون قد استجبنا لنداء الخطبة الرائعة، وامتثلنا لجوهر الرسالة التى جاء بها الرسولُ عليه الصلاة والسلام.