أبي وأبي الروحي

أبي.. وأبي الروحي

أبي.. وأبي الروحي

 العرب اليوم -

أبي وأبي الروحي

بقلم : فاطمة ناعوت

لم يرَ أحدُهما الآخر. لكن روابطَ كثيرةً ربطت بينهما؛ من بينها: أنا. كلاهما كان لى أبًا؛ إما بالجسد أو بالروح. ومن مفارقات القدر العجيبة أن يغادر كلاهما فى اليوم نفسه، ولكن فى عامين مختلفين. بين هذين العامين عشتُ أنا سنواتٍ طوالا، يغمرنى ما تعلمته منهما، وما ورثته من جينات.

الأول: أبى الحقيقى. وبمناسبة اسم عائلته الفريد، وتكرار السؤال عن معناه، يطيبُ لى أن أنقل لكم بعض ما ورد بالمعاجم: «ناعوت»: جيد كريم رفيع المنزلة، فرسٌ ناعوت: أصيلٌ سبّاق حسُنَت خصالُه، امرأةٌ ناعوت: غاية فى الجمال.

الثانى: أبى الروحى. الفنان الجميل، والوطنى المناضل «سمير الاسكندرانى»، الذى حلّت ذكراه الرابعة بالأمس ١٣ أغسطس، فى نفس يوم رحيل أبى الحقيقى.

كلاهما كان متصوّفًا وحانيًا ومثقفًا وفنانًا. تعلّمتُ منهما أن أختصمَ، ولا أكره. أن أختلفَ فى الرأى، ولا ألعن ولا أبغض. أن أساجلَ خصومى فكريًّا، ولا أدعو على أحد بالموت والويل والعذاب.

علمنى أبى أن القوة فى العُلوّ والتسامى، لا فى التدنّى والانتقام. علمنى أن أنصرف عمن لا يستحقُّ المجادلة؛ حتى أكون من: «عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما». علمنى أن أساجل الأقوياء لا الضعفاء والموتى. الضعافُ لهم المساعدة، والموتى ليس لهم إلا تمنّى الرحمة والمغفرة. علّمنى أبى أن حبَّ الله رهينٌ بحبّ خلق الله، وأن الانتصارَ لحقّ المظلوم آيةٌ من آياتِ الله العليا، لأنه تعالى حرّم الظلمَ على نفسه وجعله بيننا محرّمًا، فى الحديث القدسى. علمنى أن من يكره لا يحبُّ. ولهذا أفخر بأن «جهاز الكراهية» عندى مُعَطلٌ ولا أسعى لإصلاحه. ولم أقبض على نفسى أبدًا متلبّسةً بالدعاء على أحد، مهما ظُلمت. فقط أدعو بأن يفصلَ اللُه بينى وبين الظالمين وأن يكشف كيدَهم.

أما أبى الروحى: «سمير الاسكندرانى» فتعلّمتُ منه أن الإنسانَ كلما نضُج فكريًّا وسما روحيًّا صار أكثر رهافةً وقدرة على الحبِّ والتسامح. المتصوف صاحب أعظم الحناجر، الذى شدا لمصر بخمس لغات: العربية، الإنجليزية، الفرنسية، الإيطالية، اليونانية، مازجًا النغمَ الشرقى بالغربى فى ضفيرة أنيقة؛ فكان المطربَ والكورالَ والمؤلف الموسيقى والموزّع، فى آن. كان جبلا هائلا من المواهب والعبقريات. وإلى جوار تلك المنح الإلهية، كان فارسًا وطنيًّا يعشقُ مصرَ ويفتديها بالعزيز الأكرم. لهذا رثته المخابراتُ المصرية المحترمة يوم رحيله بكلمات خالدة: «... الذى قدّم لوطنه خدماتٍ جليلةً جعلت منه نموذجًا فريدًا فى الجمع بين الفنّ الهادف الذى عرفه به المصريون، والبطولة والتضحية من أجل الوطن».

كانت وصيتُه أن يُصلَّى عليه فى محراب «مسجد وضريح السيدة نفيسة» رضى الُله عنها. فقد كان لنفيسة العلم، عاشقةِ مصرَ والمصريين، مكانٌ ومكانة فى قلبه، مثلما فى قلوب جموع المصريين. قُبيل الصلاة عليه، وقفتُ أمام نعشه أقرأ «الفاتحة» وسورة «الفجر»: «يا أيتُها النفسُ المطمئنة ارجعى إلى ربِّكِ راضيةً مرضية، فادخلى فى عبادى وادخُلى جنتى»، ثم غلبنى البكاءُ. فإذا بصوته يشدو: “يا غُصنَ نقَا مُكلّلاً بالذهبِ، أفديكَ من الردَى بأمّى وأبى.« جفلتُ، ونظرتُ إلى نعشِه فإذا الجثمانُ الطيّبُ صامتٌ مُسجًّى فى كفنه الناصع. ثودركتُ أن صوتَه الشجيَّ قد جاء من هاتفى. لأن أغنياتِه هى نغماتُ رنينى الدائم منذ سنواتٍ.

أتذّكره الآن جالسًا جوارى على منصّة صالونى الثقافى فى «مكتبة مصر الجديدة»، لحظةَ تكريمه، وإعلانى اسمَ النجم المثقف «سمير الاسكندرانى» أبًا روحيًّا للصالون. فإذا بهاتفه يرنُّ بنغمة موسيقية عادية! اندهشتُ وقلتُ مستنكرةً: (إيه النغمة دى يا سمسم؟! اسمع نغمتى أنا) فإذا بهاتفى يرنُّ بإحدى أغنياته. فضحكَ وقال بصوته العميق الآسر: (يا بختى!) هكذا كان عذبًا رقيقًا ومتواضعًا.

كان بطلا قوميًّا عرّض نفسه للتهلكة وتحدّى جهاز الموساد الصهيونى الغاشم، وهو بعدُ طالبٌ فى كلية الفنون الجميلة. حاولتْ إسرائيلُ تجنيدَه جاسوسًا على مصر مقابل ثروة ضخمة. داسها بحذائه، وأخبر الرئيسَ «جمال عبدالناصر». وصدر قرارُ جهاز المخابرات المصرية بأن يتجاوب مع الموساد؛ لكى نُحبِط أعمال الصهاينة. وبالفعل، استطاع «سمير الاسكندرانى» بذكائه وثقافته ووطنيته أن يصفع الموسادَ صفعةً تاريخية لا تُنسى. فكرّمه الرئيسُ جمال، فى ستينيات القرن الماضى، ومنحه لقب: «ثعلب المخابرات المصرية». وصنع بهذا نموذجًا للفنان البطل؛ الذى لم يكتفِ بالتعبير عن حبه لمصر بالغناء بصوته الذهب، بل أقرنَ الشدوَ الألماسى بالمخاطرة من أجل الوطن.

أناشدُ فخامة الرئيسَ «عبدالفتاح السيسى» بتكريم اسمه بوسام وطنى يليقُ بتاريخه المخابراتى الرفيع، وإطلاق اسم «سمير الاسكندرانى» على أحد شوارع القاهرة، وعلى أحد مدرجات «كلية الفنون الجميلة»، التى تخرّج فيها ودرَّس. رحم الله أبى.. وأبى.

arabstoday

GMT 08:43 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

سيد الأمم المتحدة

GMT 08:05 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا!

GMT 07:48 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

شمس بنيامين نتنياهو المتمددة الحارقة

GMT 07:21 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

ذكرى «البيجر» وعبرة الأيام

GMT 06:07 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

الفرقة الموسيقية أقوى من صوت كل عازف منفرد

GMT 06:05 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

إسرائيل... وأوان مواجهة خارج الصندوق

GMT 05:52 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

الإسورة ساحت!

GMT 05:48 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

مدن بلا سكان

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أبي وأبي الروحي أبي وأبي الروحي



رحمة رياض تتألق بإطلالات صباحية أنيقة وعصرية تناسب أجواء الخريف

بغداد ـ العرب اليوم

GMT 05:11 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

إسرائيل والزمن

GMT 06:05 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

إسرائيل... وأوان مواجهة خارج الصندوق

GMT 04:18 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

ترامب يفرض رسومًا جديدة للحصول على إتش- 1 بي

GMT 13:52 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

هل يوقظ شَيْبُ عبدالمطلب أوهام النتن ياهو ؟!

GMT 03:19 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

النفط دون تغير يذكر وسط مخاوف بشأن الطلب

GMT 03:38 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

سلسلة انفجارات متتالية تهز مدينة غزة

GMT 03:23 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

«أبل» تستعد لإطلاق أرخص «ماك بوك» في تاريخها
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab