المولد النبوى وطقس عروسة المولد

المولد النبوى.. وطقس عروسة المولد

المولد النبوى.. وطقس عروسة المولد

 العرب اليوم -

المولد النبوى وطقس عروسة المولد

بقلم: فاطمة ناعوت

  مازلتُ أذكرُ فى طفولتى لحظات اللهفة والترقّب التى تسبقُ خروجى مع أمى لشراء «عروسة المولد» استعدادًا للمولد النبوى الشريف، يوم ١٢ ربيع الأول من كل عام هجرى. فى الطريق إلى حىّ «العتبة الخضراء»، حيث محال بيع حلوى المولد، تزحفُ اللحظاتُ بطيئةً، كأنها الدهرُ الذى لا ينقضى. تتواثبُ عيناى من نافذة السيارة تمسحُ معالمَ الطريق، تستعجلُ الخُطى وتستحثُّ المسافاتِ أن تنكمش. وبين لحظة وأخرى ألتفتُ نحو أمى لأرمقُ يدَها على عجلة القيادة أرجوها همسًا أن تُسرع لئلا تسبقنى البناتُ الأخريات فى اختيار العروس الأجمل. وبعدما نصلُ إلى المحل المنشود، تبدأ لحظاتُ الحيرة تدورُ بعينىَّ بين الرفوف الكثيرة والعرائس المتراصّة فوقها لأختار عروسًا واحدة من بين عشرات الموديلات والأشكال والأحجام. تقول القاعدةُ: كلّما كان حجم العروسة أكبرَ، كانت تفاصيلُ ملامح وجهها أوضح، وفستانُها المزركشُ بورق الكوريشة الملون أكثرَ تعقيدًا وأبهى فى تعدّد طبقات الكرانيش زاهية البريق. ثم تأتى لحظةُ القرار والاختيار. لابد من حسم الحيرة الآن واختيار عروس على وجه السرعة. يحدث هذا بمجرد أن تنظر أمى فى ساعتها وألمحَ سيماءَ الضجر ونفاد الصبر على وجهها حين تقول بحسم: (يالّا اختارى عروسة عشان تأخرنا!). تتأجج الحيرةُ، فأشيرُ إلى هذه، ثم إلى تلك، ثم أتشبّثُ بتلك الهائلة التى تقفُ على الباب يُزيّن بها التاجرُ محلّه، فترفض أمى شراءها بحجّة أن تلك العروس أطولُ منى أنا شخصيًّا، ثم كيف سنحملها فى السيارة وهى بهذا الحجم الهائل، وأين سنضعها فى البيت و.. و.. و.. و..، ويُقاطعنا البائعُ فى هدوء وقد بدأ صبرُه هو الآخر فى النفاد قائلًا: (العروسة دى أصلًا مش للبيع يا هانم، دى ديكور للدعاية)، فأتنازلُ عن حُلمى الصغير صاغرةً، وأوافق على عروسة أصغر حجمًا. بعشقٍ، أحملُ عروستى بين ذراعى، وبحذرٍ أُجلسُها إلى جوارى على المقعد الخلفى للسيارة، ونبدأ رحلة العودة إلى البيت. هنا تبدأ لحظات القلق على الكنز الثمين. عيناى لا تبرحان عروستى، وقلبى يخفقُ مع كل مطّب فى الطريق خشيةَ أن تنكسر العروس والحلم. فأطلبُ من أمى أن تُخفضَ السرعةَ، بينما أتمنى أن تطير بعروستى إلى بيتها الجديد.

لحظاتُ الشغف والترقّب، لحظاتُ الاستعجال والحيرة، لحظةُ القرار والاختيار، ولحظات القلق على الكنز؛ ثم تأتى اللحظةُ الأصعب. المسابقة التى نُجريها نحن طفلات العمارة والحىّ بين عرائسنا لنرى مَن صاحبة العروس الأجمل والأكبر حجمًا والأكثر أناقةً والأوسع كرانيشَ. ثم يأتى الصبيان الصغار من أبناء الجيران للمشاغبة، يحمل كلٌّ منهم حصانًا يجلسُ فوقه فارس. ومع الحُصُن والفرسان، يحملُ الأولادُ «شرورَهم الصغيرة» حين يبدأون فى إزعاج البنات وإفساد لحظات مرحهن، بتكسير أجزاء من عرائسنا واختطافها وهم يتصايحون ويتضاحكون غير عابئين بدموعنا وصرخاتنا ونحن نرى عرائسنا تتكسّر وتتهاوى وتسقط عنها كرانيشُها وتيجانُها وأكاليلُ رؤوسها. ثم ننتبه، نحن البنات، أنه لا طائلَ من الدموع، وأن لحظة «الانتقام» قد أذنت، فنقرع أجراسَ الحرب. نصوّبُ سهامَ غضبنا نحو الفرسان وحُصُن الحلوى، ونبدأ فى تكسيرها والتهام ما تيسّر، مثلما فعلوا بعرائسنا. وبعد المعارك، نبدأ فى الضحك جميعنا، فيما نلتهمُ قطع الحلوى المصنوعة من عسل النحل والنشا، من يد العروس هذه أو رأس الحصان ذلك أو عنق الفارس ذاك.

كبرنا وكبرت لحظاتُنا وثقُلت همومُنا وصنع اللهُ من أجسادنا عرائسَ جميلة وفرسانًا حيّة من الأطفال أحلى من السكر. ولكن أطفالنا لم يعبأوا بعرائس المولد ولا فرسان الأحصنة. لا يطلبونها ولا اختبروا شغفَ طفولتنا على عتبات العروس والفارس فوق حصانه. كبرتُ وفهمتُ لماذا كانت أمى تتخلص من العروسة بعد المولد مباشرة، حماية لى من السكر المُضرّ جدًّا بالصحة. وصِرتُ مثلها أنفرُ من حلاوة السكر، وأقتربُ من «حلاوة المعاملة الطيبة» مع الآخر. تلك هى «حلاوة الإيمان المصفّاة». وحين حدثتنى مديرة منزلى عن غلاء سعر حلاوة المولد، قلتُ لها إياكِ وتلك السموم، وإن جاءتك علبة حلاوة تخلصى منها حفاظًا على صحتك. لكنها أخبرتنى أن خطيبة ابنها لابد أن تُهدى علبة حلاوة، وإلا عُيِّروا. ووجدتُ من العبث أن أشرح لها أن «حلاوة المولد» تقليدٌ لا علاقة له بالدين ولا بميلاد مولانا الرسول، وإنما هى عادة ابتكرها الفاطميون لجمع الناس على مشترك مبهج فى مناسبة دينية. لهذا أومأتُ برأسى موافقةً، والتزمتُ الصمت. كل عام وكل البشرية فى خير وفرح ومحبة وسلام. ومولد نبوى طيب على كل الدنيا.

arabstoday

GMT 15:45 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

دوائر دوائر

GMT 15:44 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

تصدوا للتضليل

GMT 15:43 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

أهواءُ إسرائيلَ وأهوالها

GMT 15:43 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

وحدات وانفصالات ومراجعات في المشرق!

GMT 15:42 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

من «غلاف غزة» إلى «غلاف الإقليم»

GMT 15:41 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

مطلب التدخل الدولي بوقف الحرب

GMT 15:41 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

العودة إلى نقطة الصفر!

GMT 15:40 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

العالم... وحقبة استعمارية للأراضي القطبية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المولد النبوى وطقس عروسة المولد المولد النبوى وطقس عروسة المولد



نانسي عجرم تكسر قواعد الموضة في "نانسي 11" بإطلالات جريئة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 06:39 2025 الخميس ,24 تموز / يوليو

مصرع 10 رجال إطفاء في احتواء حريق بتركيا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab