«مريم» أيقونةُ الحنوِّ الكوني

«مريم».. أيقونةُ الحنوِّ الكوني

«مريم».. أيقونةُ الحنوِّ الكوني

 العرب اليوم -

«مريم» أيقونةُ الحنوِّ الكوني

بقلم : فاطمة ناعوت

فى وجهها اجتمع المختلفون، كما تجتمع الأنهارُ فى بحر واحد. فى القرآن الكريم، ذُكرت بالاسم وصارت سورةً كاملة تحمل اسمَها عنوانًا، وفى الإنجيل رُفعت فوق نساء الأرض جميعًا. وحين اختلفت زوايا النظرِ إليها، بقى جوهرُها واحدًا: أمّ حنون، وديعةٌ، بسيطةٌ، نقية.

إنّها تجسيدٌ لفكرة عميقة ومحسومة: أن العالم، مهما اختلف، لا بدّ أن يتفق على صورة «الأم». ومن بين آلاف الصور التى خطّها الفنّانون للسيدة العذراء، توقفتُ طويلاً أمام لوحة رسمها ابنى «عمر»، زهرتى المتفرّدة على «طيف التوحّد»، وفنّانى الصغير، أعتبرُها أجملَ وأصدق ما رسم. لوحة مشبعة بالألوان النظيفة: العذراءُ مريم فى وشاحها الأزرق السماوى الشهير، تميل على وليدها السيد المسيح وهو طفلٌ رضيعٌ، ينظر فى عينيها وتنظر فى عينيه، ويضحكُ كلٌّ منهما للآخر وهى تناغيه وتلاعبه، فيمدّ كفَّه الصغيرة يقبض على خِنصرها، كأنما يتشبّث بالحياة عبر إصبع أمّه.

لعلّها هذه اللوحة الوحيدة التى لا تظهر فيها العذراءُ حزينةً دامعة. بل أمٌّ صغيرة فرحة بوليدها. أدرك صغيرى «عمر» بحسّه الفطرى النافذ أن هذه السيدة هى رمزُ الأمومة الخالصة فى أبهى وأنقى صورها. لم يكن بحاجة إلى قراءة تاريخ العذراء فى النصوص الدينية، كما قرأنا نحن، لكن سحرها الوضاء أنبأه بالحكاية كلها. ربما سمعنى أناجيها مرّةً بدموعى وأقولُ لها: «أنتِ أمٌّ مثلى، وتشعرين بقلبى الموجوع على صغيرى المتوحّد». فاختصر «عمر» فى لوحته ما كتبه الشعراءُ فى آلاف القصائد: أن الأمومة هى انحناءُ القلبِ على ضَعفه الأجمل. نادرًا ما اتفقت البشريّةُ على وجهٍ واحد، لكنّها جميعًا وقفت بإجلال أمام ملامح امرأة فقيرة من الناصرة، فتاة هادئة لم تعرف قصور الملوك ولا رغد العيش ولا أبهاء الثراء، ومع ذلك صارت أمًّا كونيّة، تميل على العالم كلّه؛ مثلما تميل الأمّ على مهد طفلها. تلك هى العذراء البتول، عليها وعلى ابنها السلام، التى أحبّها المسلمُ والمسيحى، المؤمنُ وغير المؤمن، لأن «الأمومة» لا تسأل عن بطاقة هوية، ولأن الحنوّ لا يحتاج إلى عقيدة ليدخل القلب. صارت السيدة العذراء رمزًا عابرًا للأديان والثقافات، ونافذةً تطلّ منها الرحمةُ على العالم، وتتنزّل عبرها الطمأنينةُ على القلوب. أمام ملامحها، لا يسأل أحد عن دين أو مذهب أو قومية، لأن الأمومةَ لا تحتاج إلى تأويل: هى الحنانُ فى أنقى صوره. اليوم، يحتفل أشقاؤنا المسيحيون بعيد السيدة العذراء، بعدما صاموا خمسة عشر يومًا تمجيدًا لاسمها القدسى. وصوم العذراء ليس مجرّد طقس جوع عن الطعام، بل هو عطشٌ إلى ما تمثّله العذراء من قيم: النقاء، الزهد، الصبر، التضحية. حين يُمسك الجسدُ عن الطعام، يتذكّر القلبُ جوعه الأعمق: جوعه إلى أمّ تمسح جبينَه، وتحمل عنه أوجاعَه. الصوم هنا ليس طقسًا دينيًّا، بل نشيدٌ للرحمة، واستدعاءٌ لذاكرة الأمومة التى اتفقت عليها القلوب، مهما اختلفت. ولعلّ أجمل ما يرسم صورة العذراء فى أذهاننا، هو ما حُكى عن المتصوّف الأجمل «شمس الدين التبريزى»، صديق مولانا «جلال الدين الرومى» ورفيق قلبه. فقد شبّه الأديانَ بالأنهار التى تصبُّ فى بحر واحد، وحكى قصة المسافرين الأربعة: اليونانى، العربى، الفارسى، التركى، الذين تشاجروا حول أسماء العنب فى لغاتهم المختلفة، ولم يفهموا أنّ الثمرة واحدة. عندها جاء صوفى حكيم جمعهم على لُبّ الثمرة وعصيرها، وعلّمهم: إن الجوهرَ واحدٌ، أما القشور فمجرد اختلاف فى اللسان. وهكذا هى «مريم العذراء»: ليست رمزًا لطقس بعينه ولا لطائفة محددة، بل نبعٌ صافٍ للرحمة والحب غير المشروط. من حقّ المسلم أن يتشبّث بها كما المسيحى، فهى نافذةُ الحنو التى لا تُغلق فى وجه أحد، ونهرُ المحبة الذى يفيض على الجميع. إنها الأمّ التى تظلّ، كما قال شمس التبريزى: علامة على أنّ القلب التقىّ أوسع من الحدود، وأرحب من اختلاف العقائد.

«مريم» ليست شخصية من الماضى، بل حضور متجدّد، يطلّ كل يوم ليذكّر الإنسانَ بوجهه الآخر المنسىّ فى غبرة الهموم: الوجه الطفولى، العاجز، الباحث عن صدرٍ يحتويه. إنها وجه الأمومة الذى لم تشُبه مصلحةٌ، ولم يلوّثه غرورُ السلطة أو غوايةُ القوة. هى «نعم» التى قالتها للغيب، لتغدو شريكةً فى معجزة ميلاد الكلمة. وهكذا، تجاوزت «مريمُ» التاريخَ لتصبح أمّ الكونيّة: حاضرةً فى القرآن والإنجيل، وفى الأدب والفن، وفى وجدان البشرية على اختلاف عقائدها، لأن الأمومة جواز سفر عابر للزمان والمكان. كل عام وأشقاؤنا المسيحيون بخير، وعيدٌ مبارك للسيدة العذراء؛ يحتفلون به ويدعون الله أن يحمى بلادنا الطيبة وينجيها من كيد الحاقدين. وتظلُّ الأمومة: الصلاة َ التى لا تنقطع.

arabstoday

GMT 10:48 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

الداعية «قفة» وأبناؤه

GMT 10:19 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

عرش ترامب!

GMT 10:17 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

التعليم وإرادة الإصلاح (1)

GMT 10:12 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

حكاية الميلاد التي تجمع ولا تفرّق

GMT 10:11 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

الظهيرُ الشعبي للمايسترو «محمد صبحي»!

GMT 10:07 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

الكرة والحداثة

GMT 10:03 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

السن.. والعمر !

GMT 10:02 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

حنظلة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«مريم» أيقونةُ الحنوِّ الكوني «مريم» أيقونةُ الحنوِّ الكوني



أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 16:09 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

نتنياهو يعلن اعتراف إسرائيل بأرض الصومال دولة مستقلة
 العرب اليوم - نتنياهو يعلن اعتراف إسرائيل بأرض الصومال دولة مستقلة

GMT 15:14 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

جوزيف عون يؤكد إجراء الانتخابات استحقاق دستوري

GMT 10:57 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

غارات جوية سعودية تستهدف قوات المجلس الانتقالي في حضرموت

GMT 09:32 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

المركزي المصري يخفض أسعار الفائدة 1% في آخر اجتماعات 2025

GMT 08:30 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

غارتان إسرائيليتان تستهدفان خان يونس جنوبي قطاع غزة

GMT 19:02 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

عراقجي خصوم إيران يسعون لإثارة السخط عبر الضغط المعيشي
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab