زجاج سيارتي المصدوع والفلاسفة

زجاج سيارتي المصدوع.. والفلاسفة

زجاج سيارتي المصدوع.. والفلاسفة

 العرب اليوم -

زجاج سيارتي المصدوع والفلاسفة

بقلم : فاطمة ناعوت

فى ورشة الإصلاح، جلستُ داخل سيارتى أتأمل الفنيين يحاولون لحام الشرخ الطولى فى الزجاج الأمامى. وفجأة انفتحت أبواب السيارة ودخل ثلاثة من أصدقائى الموتى. ألقوا السلامَ، وهمسوا: «جئنا نؤنسُ وحدتَك حتى يلتئم زجاجُك المصدوع».

«هايدجر»، الجالس إلى جوارى كان أول من بدأ الحديث. مرّر إصبعه على الشرخ وقال: (هذا الشرخُ ليس حادثًا عابرًا، بل تذكارٌ من الوجود بأننا كائناتٌ فى طريقها إلى الموت. كل ندبة على الزجاج تذكيرٌ بأننا نسقطُ مع الناس ما لم نصُن أصالة ذواتنا. الخطر ليس فى هذا الشرخ، بل فى الشروخ الصغيرة التى نتركها بلا التفات: كذبة بيضاء، ظلم صغير، غدر، خيانة.... حين نهملها، ينهار البيتُ من الداخل ثم يتداعى. إصلاح الزجاج الآن ليس مجرد عمل تقنى، بل تمرينٌ على صيانة وجودك. فالزمنُ لا يرمم، بل يوسّع الشقوق. وحدها اليقظة هى التى تحفظ البيت من الانهيار).

من المقعد الخلفى ضحك «كامو» وقال ساخرًا: (هذا الشرخ هو «العبث» بعينه. العالم يذكّرك دائمًا بأن الكمال وهمٌ، وأن كل ما نُشيّده سيحمل ندبة. العبث ليس فى الشرخ، بل فى إصراركِ على تصديق أن الزجاج يمكن أن يظل بلا شرخ. العبث هو جلوسك هنا وإصرارك على إصلاحه رغم يقينك بأنه سينكسر ثانية، هذا هو «التمرد». تماما كما فعل «كاليجولا» حين سرق القمر. نحن لا نُرمم الشروخ لنربح معركة ضد العدم، بل لأن الإصلاح ذاته إعلان حياة. الشرخ يضحك منا، ونحن نضحك منه، ونمضى).

من المقعد الخلفى، مدَّ «سارتر» يده ملوّحًا فى وجهى بنسخة مهترئة من «العقد الاجتماعى»، وقال بنبرة ساخرة: (الشرخ ليس حدثًا عارضًا يا صديقتى. الشروخُ حصيلةُ تنازلاتنا اليومية. الحرية ليست ترفًا؛ بل قدرٌ. والصمت أمام الكسر قرارٌ. نحن محكومون بالحرية، ومسؤولون عن كل أثر فى زجاج حياتنا. «روسو» كتب عن عقد يربط الناس بالمجتمع، أما أنا فأقول إن العقد يبدأ هنا، معكِ أنتِ. أن تُصلحى الزجاج يعنى أنك تصونين ذاتك، وتبرمين عقدًا مع نفسك قبل أن تبرميه مع الآخرين. إما أن تختارى الترميم فتحفظى وجودَك، أو تختارى الإهمال فتشاركى فى انهيار البيت. لا مفر: الحرية توقيعٌ دائم على عقدٍ لا يسقط بالتقادم).

رنَّ الهاتف فجأة، وظهر على الشاشة اسم: «جان جاك روسو». وإذا بصوته الغاضب يتردّد فى أرجاء السيارة: («سارتر»! كُفّ عن استخدام كتابى كراية فى معاركك!، «العقد الاجتماعى» لم يُكتب ليُلوَّح به فى ورش السيارات!، الشرخُ فى زجاج السيارة يشبه الشرخَ فى المجتمع. يبدأ بخدش صغير، ثم يلتهم الجدار كله إن لم يُصلَح. ظلم، قانون مجحف، امتياز غير مستحق، تمييز عقدى أو طبقى أو نوعى، جميعها خدوشٌ فى جدار المجتمع، إن لم تُرمَّم فورًا، ينهارُ البناء كله، وصارت الحرية حبرًا على ورق. تذكّروا: العدالة لا تُصان بالخطب الكبرى، بل بإصلاح الكسور الصغيرة قبل أن تتكاثر. وإلا تحوّل البيت إلى أنقاض).

رنّ الهاتف من جديد، وظهر اسم «الوليد ابن رشد». قال بصوت عميق خارج من تخوم المكتبات: (أيها الرفاق، الشروخُ لا تُصلَح بالجدل، بل بالعقل. مثلما الزجاج لا يلتئم بالخيال، كذلك شروخ المجتمع لا تُرمم إلا «بالحق الذى لا يضادُّ الحقَّ». الفلسفة ليست ترفًا، بل طِبٌّ للوجود، والبرهانُ هو أداة الترميم. لا تُسلموا أنفسَكم للصدوع الصغيرة، فهى إن تُركت نخرَت البناءَ كله. هل أذكّركم بنظرية «النوافذ المحطمة» التى كتبها «ويلسون» و«كيلنج» عام ١٩٨٢؟ «إذا تُركت نافذةٌ مكسورة بلا إصلاح، فهى إشارة تقول: لا أحد يهتم، ومن هنا يبدأ التدهور حتى تصل الفوضى». غير أن هذه النظرية الأمنية لا تتعلق بالمدينة وحدها؛ بل يمكن أن نقرأها كاستعارة عن الإنسان والمجتمع والكرامة. فالشرخُ الصغير فى زجاج ما، يشبه الخلل الطفيف فى النفس أو فى المجتمع: إذا أُهمل، تضاعف حتى يصير انهيارًا).

قبل أن يتلاشى صوتُ «ابن رشد»، تسلّل نسيمٌ خفيف من شرخ الزجاج، فأدركنا أن «محيى الدين بن عربى» قد حضر: همس بعذوبته المعتادة: (أما أنا فأرى أن الشرخ ليس عيبًا، بل نافذةٌ يُطلّ منها النور. الكمال يتخفّى فى النقصان، والانكسار مرآة للكمال الباطن. لا تنظروا إلى الزجاج بما فيه من كسر، بل بما يتيحه من رؤية أخرى. فالشرخُ قد يعلّمكم ما تعجز عنه النافذة السليمة. فكل جرح فى الظاهر هو عيُن فى الباطن، تفتحكم على سرّ أكبر. دعوا الشرخَ يتحدّث، فهو حكمة متخفّية).

وكأن مهندس الإصلاح فى ورشة «خالد أوتو جلاس» قد سمع «ابن عربى»، إذ صحوت على صوته يعتذر قائلا: «الشرخ للأسف غائرٌ وغير قابل لإصلاح. لابد من تركيب زجاج جديد!».

arabstoday

GMT 10:51 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

المسلمان

GMT 10:48 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

من موجة ترمب إلى موجة ممداني

GMT 10:47 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاجأة الحرب... تكنولوجيا أوكرانية مقابل أسلحة أميركية

GMT 10:41 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

محاذير هدنة قصيرة في السودان

GMT 10:37 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

المتحف المصري الكبير

GMT 10:36 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

«تسونامي» اسمُه ممداني

GMT 10:33 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

السودان... حكاية الذَّهب والحرب والمعاناة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

زجاج سيارتي المصدوع والفلاسفة زجاج سيارتي المصدوع والفلاسفة



نجمات مصريات يجسّدن سحر الجمال الفرعوني في افتتاح المتحف المصري

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 01:07 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

دواء جديد يحمي مرضى السكري من تلف الكلى
 العرب اليوم - دواء جديد يحمي مرضى السكري من تلف الكلى

GMT 01:53 2025 السبت ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

فيديو قديم مع دينا الشربيني يثير ضجة وروبي تعلق بغضب
 العرب اليوم - فيديو قديم مع دينا الشربيني يثير ضجة وروبي تعلق بغضب

GMT 10:41 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

محاذير هدنة قصيرة في السودان

GMT 09:06 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

عمرو دياب يوقف حفله في دبي بسبب نيللي كريم وأحمد السقا

GMT 15:41 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

يامال يرفض المقارنات بميسي ويركز على تحسين أداء الفريق

GMT 16:15 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمم المتحدة تطلق حملة تطعيم واسعة للأطفال في غزة

GMT 10:58 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

مرقص حنا باشا!

GMT 10:59 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

مرة أخرى.. قوة دولية فى غزة !

GMT 11:40 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

.. وفاز ممداني

GMT 22:52 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إقبال تاريخي على المتحف الكبير في مصر مع زيارات غير مسبوقة

GMT 12:01 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

صدقوني إنها «الكاريزما»!

GMT 20:43 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل تنفق ملايين الدولارات لتحسين صورتها في أميركا

GMT 11:53 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إحياء الآمال المغاربية

GMT 05:50 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة

GMT 10:05 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

ياسمين صبري تعلّق على افتتاح المتحف المصري الكبير
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab