زلزالٌ ابنى و«غزّة»

زلزالٌ.... ابنى.... و«غزّة»!

زلزالٌ.... ابنى.... و«غزّة»!

 العرب اليوم -

زلزالٌ ابنى و«غزّة»

بقلم : فاطمة ناعوت

كنتُ جالسة فى غرفة المعيشة أطالع كتابًا، وغفوتُ برهةً خاطفة، لأصحو فزِعةً على ارتجاج الأريكةُ التى تحملنى. لوهلةٍ ظننتُ أن «ليزا وبانكي»، كلبتَيَّ الصغيرتين، تتعاركان أسفلها! وهممتُ بالانحناء لأفضَّ الاشتباك، لأسمع صوتَ اصطكاك الثريّات فى النجف، ولمحتُ تمايل التماثيل والفازات؛ فأدركتُ أنه زلزال قوّي! ولم أفكّر فى شيء إلا ابنى «عمر»! صرختُ أناديه وركضتُ للبحث عنه؛ فوجدته فى غرفة المكتب يحاول إنقاذ تمثال القطّ الفرعونى «باستت»، إذ قرر السقوط من المكتبة. هرعتُ إليه واحتضنتُه ووضعتُ يدى فوق رأسه لأحميه، وقلبى ينفطرُ خوفًا عليه. راعنى هدوؤه الواثقُ، واطمئنانه المريب! بل ابتسامتُه التى قابل بها هلعى! ثم انتبهتُ إلى أن مثله لا يجزع. فالملائكةُ لا تفزع ولا تخشى ما نخشى. هتفتُ: «زلزال يا عمر!»، فهمس بهدوء وهو يتحرر من عناقى: «التمثال وقع... اتكسر! زلزال زفت جدًّا!» وبعدما أتمَّ ترميم التمثال، دخل غرفته بهدوء لينام. ولخوفى عليه من التوابع، رحتُ أتوسّلُ إليه أن ينام إلى جوارى فى غرفتى، أو يسمح لى بالنوم فى غرفته! وجاءت الإجابةُ التى توقعتُها: الرفض. من العبث محاولة إقناع صبيٍّ تحت «طيف التوحد» مثل «عمر» بأن يخاف، أو أن يكسر عادات توحده ووحدته. أحضرتُ مقعدًا ووضعته أمام باب غرفته الموصد؛ لكى أحرسه! كيف أحميه؟ لا أدرى! ولكنه اطمئنان البقاء على مقربة منه، والسلام! وسهرتُ الليلَ حتى الصباح. ولكيلا أغفو فتحتُ «لايف» حيًّا فى TikTokمع الساهرين من متابعينى وأصدقائى من مصر والمغرب وأمريكا وفرنسا. عزف مَن عزف، وغنّى مَن غنّى، وقرأ الشِّعر مَن قرأ، وتحدثنا عن الكتب والثقافة والتصوّف والزلزال، وبالقطع فلسطين.

سهرتُ الليلَ أحرسُ ابنى. وددتُ أن يسقط السقفُ على رأسى دون رأسه، وأن ينهار الجدارُ على جسدى قبل أن يمسَّ ظلَّه! وأنا أحتضنه لحظة الزلزال وطوال مناوبة سهرى، لم يغب عن ذهنى وجهٌ أعرفه!، الأم الفلسطينية! لحظات خاطفة من زلزال، ألقت بى فى جُبّ الخوف على صغيرى، فما بال أمهات فلسطين يعشن الرعب على صغارهن كل لحظة من ساعة من يوم من عام؟ يعشن نهارهن وليلهن تحت القصف وتحت الجوع والظمأ!

كان زلزالًا خاطفًا فى مصر مركزه جزيرة «كريت». مخيفٌ؟ نعم! لكنه مَرَّ. لكن ثمة زلزالاً لا ينتهى ولا يمرٌّ. الزلزالُ الأشرس لا يأتى من باطن الأرض، بل من باطن الإنسان، إذْ يقسو ويفجُرُ فى الخصومة! الزلازلُ تخرجُ من قنابل الفوسفور إذ تجور، لا من صدوع القشرة الأرضية إذ تثور. من جَور الطائرات القانصة، لا من تحرّك الصفائح والطبقات الكلسية. صافحنى «وجهُ غزّة» التى تصافحُ الزلازلَ كل ليلة. غزة التى لا يطيبُ خاطرُها بعد الزلازل برسالة من صديق أو منشور يحمل آياتٍ طيبات؛ لأن زلازلها لا تخمد. غزة التى لا تعود إلى بيتها لتنعم بالأمان؛ لأن البيوتَ صارت حُطامًا. غزة التى لا تُطفئ الأضواءَ لكى تنام، لأنها الأنوار مطفأةٌ منذ شهور.

إذا أفزعنا زلزالُنا القاهرىّ وقد استمر عشر ثوانٍ، فما عدد الثوانى التى عاشها طفلٌ فى غزة تحت القصف على مدى عامين؟ كم مرة حملت أمٌّ طفلها وركضت مرتعبة مثلما ارتعبتُ أنا على صغيرى! بوسعنا أن نحمل أطفالنا راكضين إلى الطرقات، فإلى أى طرقاتٍ تحمل الأمُّ الغزاويّة صغارَها، والطرقاتُ أرضُها لغمٌ وسماؤها بارود؟!

ارتعبنا فى مصر من موتٍ محتمل. فكيف حالك يا غزة تعيشين الموتَ المقيم، بين فرصُ نجاة هى الاحتمال؟! الموتُ فى غزّة ضيفٌ ثقيلُ الظلِّ لا يبرح. ينامُ معهم على أسرّتهم، ويأكل من طعامهم، ويغسلُ وجوه أطفالهم كل صباح. الزلزال الذى هزّ أرض القاهرة، ذكرنا أن الموتَ وشيكٌ والحياةَ هشّة، لكن غزة تذكّرنا كل يوم أن الإنسان، حين ينسى إنسانيته، يصبح الزلزال الأشرس والأقسى والأكثر عماءً. هدأ الزلزالُ القاهريُّ فخلدنا إلى النوم، لكن الكابوس فى غزّة لا يبرح ولا يترأف لكى ينام الصغارُ آمنين.

كيف يحقُّ لنا أن نشكو لحظة خوف، وحول أجسادنا جدرانٌ تحمينا؟ بينما هناك فى فلسطين الجريحة، لا ظلّ لجدار، ولا ظلّ لمستقبل، ولا ظلّ لطفولة ترومُ أن تعيشَ وتكبرَ وترسمَ قلوبًا على الحوائط تضربها أقواس الحبّ!

طوباكِ يا غزة. أيّتها المدينةُ التى لا تُسقطها الزلازلُ. يا زهرةَ النار، يا عروس الخنادق. سلامًا لكِ من قلوبٍ خافت لحظةً، لتدرك أن الخوف سُكناكِ، ولا أحد يسمع. غزّةُ يا نبضَ شعبٍ فى الخطوبِ يعيشُ، يا طفلةً تبكى وتكتمُ جُرحَها، وتعلّمُ الدنيا الصمودَ النبيل، يمضى عليها الموتُ ألفَ مرّةٍ، وتظلُّ تُزهرُ فى الرمادِ وتشرقُ، جاعتْ، فما شكَتِ المجاعةَ لحظةً، عفّتْ، وما قبِلتْ أن تَهِن أو تنحنى.

arabstoday

GMT 15:45 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

دوائر دوائر

GMT 15:44 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

تصدوا للتضليل

GMT 15:43 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

أهواءُ إسرائيلَ وأهوالها

GMT 15:43 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

وحدات وانفصالات ومراجعات في المشرق!

GMT 15:42 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

من «غلاف غزة» إلى «غلاف الإقليم»

GMT 15:41 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

مطلب التدخل الدولي بوقف الحرب

GMT 15:41 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

العودة إلى نقطة الصفر!

GMT 15:40 2025 الأربعاء ,23 تموز / يوليو

العالم... وحقبة استعمارية للأراضي القطبية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

زلزالٌ ابنى و«غزّة» زلزالٌ ابنى و«غزّة»



نانسي عجرم تكسر قواعد الموضة في "نانسي 11" بإطلالات جريئة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 06:39 2025 الخميس ,24 تموز / يوليو

مصرع 10 رجال إطفاء في احتواء حريق بتركيا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab