بقلم : فاطمة ناعوت
لماذا يتهافتُ الناسُ على مدارس الراهبات ومدارس الرهبان؟ وحين يواجهون قوائمَ الانتظار الطولى، وشروط الدخول العسرة، تحول بينهم وبين رحابها، يلجأون للوساطة علّهم يظفرون بمقعدٍ لأطفالهم وطفلاتهم بين جدرانها؟ السبب هو أن تلك المدارس العريقة نجحت فى تحقيق المعادلة العصيّة: «تعليم+أخلاق+رُقىّ».
ما إن تجتازَ قدماك بوابةَ إحدى مدارس الراهبات فى مصر، فقد دخلتَ معبدًا للعلم، لا مجردَ صرحٍ تعليمى. فى حضرة تلك الجدران البيضاء الصموت، التى تعزفُ عن الضجيج والصخب، تُشرقُ المعرفةُ بأناقةٍ، وتُزهرُ التربيةُ بحُنوٍّ حازم، وتُروَى الأرواحُ بانضباطٍ يشبه الثكنات العسكرية. ليست مدارسُ الراهبات كغيرها. ثمّةُ فرقٌ شاسعٌ بين تدريس العلوم، وغرسه فى تربةٍ مُهيأةٍ: بالنظام، والهدوء، والخلق الكريم. هناك، لا يُلقَّنُ التلميذُ، بل «يُصاغُ» كما تُصاغُ القصائدُ: بعنايةِ شاعرٍ يزنُ كلَّ كلمة، ويهندسُ كلَّ فاصلة.
فى تلك المدارس، تجتمعُ أناقةُ الزى المدرسى وحُسن المظهر والنظافة، بانضباطٍ حاسم يغسلُ الوقتَ من الفوضى، مع حُنوّ الراهبات الصارم! وهل يجتمعُ «الحنوّ» مع «الصرامة»؟! تلك معادلةٌ مستحيلة، لا يعرفُ سرُّها إلا الراهبات! ليس العِلمُ وحدهُ هو المُقدَّس بين جدران تلك الصروح التعليمية، بل السلوك، النظافة، الالتزام، الضمير، والحبّ. نعم، الحبّ؛ ذلك الذى يُسكَب فى قلوبنا من عيون الراهبات وابتساماتهنّ، وحنانهنّ الذى يشبه دفءَ الأمهات.
فى الصباح، يُعزف النشيدُ الوطنى، ثم تُتلى القيمُ، فى وقفةٍ روحيةٍ لا تُفرّق بين مسلمٍ ومسيحى. تتعلّمُ الطفلةُ أن تقولَ: «من فضلكِ» و«شكرًا»، وأن تحافظ على هندامها، وتكتبَ بخطٍّ مُنمَّق كأنما تطرّزُ بحروفها وشاحًا من الأناقة المعرفية. يتعلَّمُ التلاميذُ أن زملائهم فى الفصل رفقاءُ حياة، لا خصومًا منافسي؛ فتتشكّل النواةُ المجتمعيةُ المصغّرة منذ البدء على نحو صحى سليم. فكل فردٍ فى المجتمع هو صُنوٌ وسندٌ وملاذٌ، وليس «آخرَ» يُخشى جانبُه، بل صديقٌ يساهمُ معى فى ارتقاء الوطن.
تنتشر مدارسُ الراهبات فى ربوع مصر منذ أكثر من قرن ونصف، من الإسكندرية إلى أعماق الصعيد، حاملةً على عاتقها رسالةَ التعليم والتهذيب، وتُديرها جمعيات رهبانية فرنسية وإيطالية وألمانية ولبنانية، تركت بصمتَها المضيئة فى ذاكرة أجيال متعاقبة من المصريين. من أشهرها «مدرسة نوتردام ديزابوتر» التى تعلّمت فيها والدتى، و«الفرير»، و«سان جوزيف»، و«القديسة آنا»، و«الراعى الصالح»، و«القلب المقدس»، و«الجيزويت»، وغيرها من الأسماء اللامعة. وأفخرُ أننى من بنات مدرسة CGC تلك المدرسة العريقة التى احتفلنا مؤخرًا بعيد ميلادها الـ110 فى حفل حاشد حضره «قداسة البابا تواضروس الثاني»، وقال فيه إن خريجات هذه المدرسة «أميراتٌ» يُضئن المجتمع. فى تلك المدرسة الجميلة تعلّمتُ القيمَ الرفيعة واحترام الشعائر الإسلامية، ولم نشعرُ يومًا بالتمييز الدينى، فقد كان فى رحاب المدرسة مسجدٌ صغيرٌ أنيق مزوّدٌ بالمصاحف والكتب، أمام الكنيسة المدرسية، فى مشهد يجسّد أرقى معانى السماحة والمحبة.
مدارسُ الراهبات حضنٌ تربوىٌّ وفضاءٌ تعليمىٌّ يغرسُ فى النفس قيم: التهذّب واحترام الآخر وحب الوطن وتقدير الوقت، وقدسيّةَ الكلمة. ولا يغيب الرافدُ الإنسانى عن الرافد المعرفى فى تلك المدارس. فإلى جانب الرحلات التثقيفية للمتاحف والمعالم الوطنية والعالمية، فإن زيارات دور الأيتام والمسنين جزءٌ أصيلٌ من النشاط المدرسى عطفًا على مشروعات التبرع والمساعدات المجتمعية، التى تغرس فى الطفل قيمة الخير والتآزر. فتخرج الطفلةُ من تلك الجدران، وقد عرفت معنى أن تكون «مواطنة»، تعرفُ حقّها، وتؤدى واجبها، وتحتضن المختلف عنها بكل محبة.
لهذا، ليست مصادفةً أن كثيرًا من نُخب المجتمع، من مثقفين ومفكرين ووزراء وسفراءَ وقضاةً، ورموز المجتمع فى الفن والطب والهندسة والعلوم والإعلام، تخرجوا من تلك المدارس، حاملين أثرًا جليًّا من تلك الأناقة المعرفية، والتهذيب السلوكى، والذوق الرفيع. ولهذا، ليس مُستغربًا أن يسعى أعداءُ مصرَ الكارهين ازدهارَها إلى محاولات هدم وتشويه تلك الصروح العظيمة.