تبوّأ السلاح مكانةً ترقى إلى مستوى القداسة في حياتنا، وربّما نحتاج إلى حاسوب ضخم لتحديد كم استخدمت مفردته في الأدب والغناء والانقلابات والثورات.
في مصر قبل زمن السلام، كان عنوان النشيد الوطني “والله زمان يا سلاحي”. وفي فلسطين، لم تخلُ أغنية أو أهزوجة أو هتاف منه، حتّى اعتنقت الأجيال مقولة “السلاح زينة الرجال” كمبدأ لا يصحّ التخلّي عنه مهما بلغت خساراته.
في حياتي وأنا في أواخر السبعينيّات من عمري، عشت تجارب عديدةً مع حكايات السلاح، منذ أُرِّخ للثورة الفلسطينية بإطلاق الرصاصة الأولى في أوائل عام 1965، مروراً بالتجرّد منه، في عامَي 1970 و1971 في الأردن، إلى مرحلة تمدّد نفوذ حامليه على الجغرافيا اللبنانية، حيث انتهت التجربة بمغادرة السلاح وحامليه إلى ما وراء البحر.
ما حدث مع السلاح، في ساحتَي الأردن ثمّ لبنان، أنّ النهاية كانت بفعل تسوية سياسية، أنجز الجزء الأوّل منها مؤتمر قمّة عربي، رعاه الرئيس جمال عبدالناصر الذي قضى نحبه في اليوم الأخير من أيّام القمّة.
إثر انتهاء تجربة السلاح وحامليه في الأردن، تبلورت تجربة تكاد تكون مماثلة في لبنان. ومع الاختلافات الكثيرة في الزمان والمكان
في قبضة الإسلام السّياسيّ
إثر انتهاء تجربة السلاح وحامليه في الأردن، تبلورت تجربة تكاد تكون مماثلة في لبنان. ومع الاختلافات الكثيرة في الزمان والمكان، إلّا أنّ النهاية كانت متشابهة في خلاصاتها العامّة، إذ خرج السلاح وحاملوه من الجغرافيا اللبنانية بتسوية سياسية قادتها الولايات المتّحدة، وانتقل فعل السلاح إلى الوطن، مع استبدالٍ دراماتيكيّ لأدواته، فبدل البنادق والقنابل اعتُمدت الحجارة، وبدل استراتيجية الكفاح المسلّح وقداسة البندقيّة، حلّت استراتيجية العمل السياسي والتسوية.
انتهت تجربة السلاح رسميّاً في زمن السعي إلى التسوية، إلّا أنّها نهضت في الجزء الآخر من الوطن حيث غزّة التي وقعت في قبضة الإسلام السياسي، وخياره العسكري المجازف، والمتحفّظ أصلاً على خيار التسوية ما دامت “فتح” من أسّسته وتعمل به.
أنتجت تجربة السلاح في غزّة حروباً متقطّعة، حتّى وصلت الأمور إلى أخطر مجازفةٍ قام بها حمَلة السلاح في التاريخ الفلسطيني، حين أحدثت “طوفان الأقصى” بضربةٍ واحدةٍ استغرقت ساعات قليلة أعنف زلزالٍ هزّ أساسات الدولة العبريّة، وفتحت الباب واسعاً أمام أطول وأشرس حربٍ في تاريخ صراعات الشرق الأوسط، بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، وها هي مستمرّة بعد اثنين وعشرين شهراً مضت على ويلاتها وغموض فرص حسمها بالحرب أو التسوية.
عاد السلاح من جديد ليكون مركز الحدث، حتّى صار رمزاً لأيّ هزيمة أو نصر، وصار مصيره بمنزلة عقدة العقد في أمر انتهاء الحرب ودخول اليوم التالي.
في تجربة عرفات وسلاحه في لبنان، حصل حامل المسدّس الذي لا يغادر جنبه على إخراجٍ لائقٍ لما حلّ بسلاحه، إذ مُنح تسويةً مكّنته من القول إنّه لم يستسلم ولم يسلّم سلاحه، بل انتقل به من ساحةٍ إلى أخرى، دون أن يقول صراحةً إنّه انتقل من جغرافية الكفاح المسلّح وساحته الثمينة لبنان إلى جغرافية التسوية وكمائنها الخطرة، وغموض مآلاتها. وكان هذا هو كلمة سرّ تفاوضه الطويل والصعب مع فيليب حبيب في أمر مراسم الخروج، للحفاظ ما أمكن على شرف السلاح ومكانته.
تجميد أم تسليم؟
الأمور مختلفة في زمن غزّة و”حماس”، إذ أصبحت التسوية الشبيهة بما حدث مع سلاح عرفات في لبنان، تبدو مستحيلة، فلا حرس شرف يصطف في وداع القائد ورجاله وسلاحه، على أرض الميناء، ولا استقبالات زاهرة للخارجين من أتون حرب سلامة الجليل، بما في ذلك استقبال الزعماء العرب لعرفات أثناء قمّة فاس ذلك الاستقبال الذي تخلّف عنه حافظ الأسد وحده، ولا انفتاح دوليّاً يكاد يكون شاملاً على أهميّة دور عرفات ومنظّمته في حالة البحث عن حلولٍ لمعضلة الشرق الأوسط، ولا مؤتمر مدريد ينتظر “حماس” ولا حتّى ما يشبه أوسلو على كلّ علّاتها، فما هو مطروح الآن بالضبط هو قتل سلاح “حماس” بالصدأ تحت عناوين متعدّدة، منها مثلاً تجميده بدل تسليمه، وما على “حماس” إلّا أن تقرّر ما تستطيع فعله وليس ما ترغب: تسليمٌ أم تجميدٌ؟ وهذا ما يجري العمل عليه من قبل الوسطاء، وما لا تملك “حماس” المساحة الكافية لحسمه لمصلحة الاحتفاظ به، مع أنّها تقاتل حتّى الموت لتفادي مشهد التسليم المهين وفق التصميم الأميركي الإسرائيلي.
الخلاصة: السلاح الذي كان أيقونة في زمنٍ انقضى، صار في هذا الزمن عبئاً ثقيلاً على حامليه قبل غيرهم، وعبئاً على أوطانهم قبل عدوّهم، وهذا ليس في فلسطين وحدها وإنّما في أكثر من مكان.