تقترب حرب غزّة التي يصحّ أن تُسمّى حرب الشرق الأوسط الجديد، من دخول عامها الثالث. تتفاوت كثافة النار على جبهاتها المتعدّدة، إلّا جبهة غزّة حيث منسوب النار ثابت على مستوى واحد، ومساحة الدمار تتّسع على الوتيرة ذاتها، وغزارة الدم نزيف لا يتوقّف.
تتّحد الجبهات المشتعلة والهادئة والمتحفّزة، في غياب الحسم العسكري والسياسي، وغياب المهدّئات المألوفة كالهُدن الطويلة والقصيرة. جبهة المركز غزّة والضفّة هي الأكثر اشتعالاً، والأكثر ابتعاداً عن الحلول.
يتجسّد مأزق “حماس” في غزّة في حالتين، كلّ واحدةٍ منهما أشدّ صعوبةً من الأخرى:
    اضطرارها إلى مواصلة المقاومة العسكريّة تحت ضغط ميزان قوى يميل بصورة كاسحة لمصلحة العدو، ليس فقط على صعيد القدرات العسكريّة بمختلف أنواعها، وإنّما على الصعيد التحالفيّ، خصوصاً بعدما جرى تجريد “حماس” من حلفائها في جبهات الإسناد، سوى جبهة الحوثي اليمنيّة التي تزعج إسرائيل وتربكها كلّما انطلقت صافرة إنذار في مدنها ومرافقها ومطاراتها، من دون أن تؤثّر جوهريّاً على ميزان القوى العسكري الرئيس وجهده المركّز الآن داخل غزّة.
    ما تزال قيادة غزّة مسجّلةً باسم “حماس”، دون أن تمتلك أيّ قدرةٍ على مساعدة الناس الذين يكابدون مقتلةً يوميّةً مستمرّة ومفتوحةً على الزمن، ونزوحاً داخليّاً مرهقاً وسقوط قتلى تحت الأنقاض وفوقها ومجاعةً لم تنفع معها قطرات الدعم المحدودة، و”حماس” لا تملك ما تساعد به الناس في هذه الحالة، بل إنّها تعاني من اتّهامٍ جارحٍ بأنّها تقدّم مصلحة مقاتليها على مصالحهم واحتياجاتهم.
تتّحد الجبهات المشتعلة والهادئة والمتحفّزة، في غياب الحسم العسكري والسياسي، وغياب المهدّئات المألوفة كالهُدن الطويلة والقصيرة
لا مخارج متاحة
ربّما أفدح مأزقٍ تواجهه إلى جانب كلّ ما تقدّم أن لا مخارج من الحالة المفروضة على “حماس”، والمقترَح المتداول هو الاستسلام الذي لن تقبل به لأنّه أفدح خسارةً من مواصلة القتال باللحم الحيّ.
لا تنفرد “حماس” بالمآزق على ساحة غزّة، بل العدو الإسرائيليّ الذي يحارب الفلسطينيّين على جبهتين، جبهة حرب العصابات المكشوفة في غزّة، وجبهة الذئاب المنفردة في الضفّة.
الذئاب المنفردة مصطلحٌ أنتجته إسرائيل في وصف المقاتلين الذين يقومون بأعمالٍ موجعةٍ على عاتقهم الخاصّ، من دون أن تكون لهم مرجعيّاتٌ تنظيميّةٌ يمكن التوجّه إليها، وبما يتوافر لهم من سلاحٍ بدائيّ كذلك الذي استُخدم في العمليّة الأخيرة في منطقة القدس.
تحاول إسرائيل مواجهة الوضع في الضفّة بإغراقها بالجيش والمستوطنين والحواجز الثابتة والمتنقّلة، إلى جانب تشديد الضغط الاقتصادي وتضييق الخناق على حياة الناس والتهديد بمضاعفة الاستيطان. اتّخذت قراراتٍ عمليّةٍ بهذا الشأن، والتهديد بالضمّ، على الرغم من خفوت الحديث عنه بعد عمليّة الدوحة، ما يزال على الأجندة، وكذلك التهجير الذي إن لم يكن متاحاً إلى الخارج فهو متاح إلى الداخل.
مأزق إسرائيل المتفوّقة عسكريّاً والمتغوّلة استيطانيّاً أنّ كلّ ما تفعل وكلّ ما تهدّد به لم يثنِ الفلسطينيّين عن تحدّيهم لها ببقائهم على أرض الوطن وامتناعهم المطلق عن رفع الراية البيضاء.
تحاول إسرائيل مواجهة الوضع في الضفّة بإغراقها بالجيش والمستوطنين والحواجز الثابتة والمتنقّلة، إلى جانب تشديد الضغط الاقتصادي وتضييق الخناق على حياة الناس والتهديد بمضاعفة الاستيطان
مأزق إسرائيل
يكمن مأزق إسرائيل أيضاً في عدّة أمورٍ ثبتت استحالة التخلّص منها. أوّلها أنّها لأوّل مرّة في تاريخها تخوض حرباً طويلة الأمد على جبهاتٍ متعدّدة تستنزف قواها وقدراتها من دون أن تقدّم قيادتها لجمهورها مخارج توفّر أمناً دائماً وعلاقاتٍ إقليميّة ودوليّة مستقرّة في الوقت الذي يتّسع فيه “تسونامي” الاعترافات بالدولة الفلسطينيّة، وخصوصاً من الدول التي كانت تاريخيّاً وسياسيّاً ومن كلّ النواحي الحاضنة الآمنة لإسرائيل وحتّى لحروبها وتوسّعاتها.
في آخر تقريرٍ مهنيٍّ عن الوضع الداخليّ في إسرائيل، ظهر أنّ نسبةً عاليةً من الجمهور لم تعُد تخاف فقط من فقدان الأمن الشخصي بل تخاف بشدّة من التدهور الاقتصادي الذي جاءت به الحرب من خلال الاقتطاعات المؤثّرة من موازنات المرافق الأساسيّة، مثل الصحّة والتعليم وغيرهما من المرافق الأخرى، والتي يتّجه إنفاقها بمعظمه إلى العمل العسكري الذي يبدو أن لا نهاية له.
حتّى حين تفكّر إسرائيل في ضمّ أجزاء من الضفّة أو كلّها، لن تنجو من مأزق الاتّهام الدوليّ الشامل بتحوّلها رسميّاً وفعليّاً وقانونيّاً إلى دولة فصلٍ عنصريّ، وذلك لاستحالة مساواتها بين مواطنيها ومن ستضمّهم إليها.
على الرغم من استناد إسرائيل إلى الجدار الأميركيّ بكلّ ما يوفّره لها من دعمٍ ماليٍّ وتسليحيٍّ وسياسيّ، دخلت في عزلةٍ دوليّةٍ غير مسبوقة اعترف بها نتنياهو، وطالب الجمهور القلِق بالاعتماد على الذات لتجاوز حصارٍ تسليحيٍّ واقتصاديّ بدأ بالظهور بقراراتٍ نافذةٍ من بعض الدول.
 إقرأ أيضاً: من سينهار أوّلاً: السلطة الفلسطينية أم نتنياهو؟
مأزق استراتيجيّ
إنّ إقرار نتنياهو بذلك، وهو في أوج علاقاته الشاملة والعميقة مع إدارة دونالد ترامب، وهو يواصل حرب الجبهات السبع من دون حسمٍ نهائيّ على أيّ واحدةٍ منها، هو إقرارٌ بمأزق استراتيجيّ متشعّب حرص على إنكاره وادّعاء قدرته على تجاوزه.
الخلاصة أنّ المتقاتلين على أرض غزّة، وحتّى على كلّ ساحات الشرق الأوسط، ومن ضمنهم إسرائيل، يعانون جميعاً من مآزق لا مخرج منها، ليس على مستوى تشكيلاتهم الحزبيّة أو المليشياويّة المقاتلة، وإنّما على مستوى أوطانهم ومجتمعاتهم وشرعيّات كياناتهم. أمّا إسرائيل فمأزقها المتفرّد يكمن في استحواذ جنون العظمة على قادتها الذين يتصرّفون كما لو أنّهم قادرون على كسب أيّ معركةٍ يخوضونها، بما في ذلك معركتهم المستحيلة بالسيطرة على المنطقة.
ما يجري الآن في الشرق الأوسط وما يُنتظر من تطوّرات يجعلان من مصطلح الشرق الأوسط الجديد كابوساً يؤرّق أهل المنطقة والعالم جميعاً ويولّد حنيناً للقديم على الرغم من كلّ موبقاته وكوارثه.