بقلم : فهد سليمان الشقيران
تُتداول باستمرار بعض الفيديوهات والكتابات التي توثق لتاريخ أولٍ اتصالٍ غير مباشر بين الناس. ويتعلق الزمر باختراعات مثل: اللاسلكي، والبرقية، والفاكس.. إلخ، كلها كانت مفاجئةً، حتى جاء زمن الهاتف المباشر ما جعل المسافةَ بين البشر أقربَ وأقلّ تباعداً. وما كانت هذه الفتوحات التقنية الكبرى في عالم التواصل إلا لإنجاز المهمات، ومع التقدم التقني المهول بدأت الأسئلة الأدبية والأخلاقية، وهي تحمل بالضرورة بعضَ الترف الفكري، غير أن الاستئناس بالتداخل معها يمكن أن يغيّر من السلوكيات التي ننتهجها مع موجة شبكات تواصل مدلهمة حتى باتت الخصوصية الفردية شبه معدومة. وحين توصّلت البشريةُ، بفضل عباقرتها في المجالات العلمية والفنية، إلى هذا المستوى من القدرة على التواصل اللحظي، لم يبدُ السؤال الأخلاقي حاضراً في وقتها، بل غلَبت النقاشات الاستعمالية للتقنيات على كل الجوانب الأخرى لهذا الفتح التقني المبهر.
غير أن هذا التغوّل للتقنية وسهولة الاتصال في حياتنا جعل مجموعةً من الحكماء يحاولون لجم هذا الأسلوب عبر طريقتين رئيسيتين؛ الأولى: تغيير نمط التواصل، على سبيل المثال قبل الاتصال بأحدٍ ليس من الخطأ استئذانه برسالةٍ حول أي وقتٍ يناسبه الحديث، وبخاصةٍ في الموضوعات التي تحتاج إلى وقتٍ لإتمام محتواها ولإنجاح وظيفتها والنقاش حولها، ذلك أن الاتصال المباغت خارج الدوائر الأساسية، الأسريّة والمهنية أو فئة الصداقات الاعتيادية للإنسان، يعتبر خارجَ حسابات الاستعداد اليومي، وبالتالي من الضروري قرع جرس الاستئذان قبل مباشرة الاتصال، وهذا من التحضّر العالي. الثانية: إن الاتصال في أغلب الأحوال لم يعد ضرورياً كما كان عليه قبل قرنٍ من الزمان، أي أنه أصبح بالإمكان شرح الفكرة وتمهيدها قبل إجراء الاتصال، وكذلك التعريف بالنفس، وتحديد الهدف من الاتصال، وهذا يعطي للتواصل حالةً حضاريةً أكثر غنى.
كما أن الردّ على الاتصال هو نوع من الضيافة، وبالتالي لابد من احترام هذه القيمة الأخلاقية النبيلة، فمَن يردّ على اتصالك هو يستضيفك بالضرورةر ويمنحك الوقتَر ويبادلك النقاشَر ويصغي لحديثك. ما عادت الضيافة مقتصرةً على الاستقبال في مكانٍ أو بيت، بل تمددت لتشمل كل علاقات التواصل بين البشر. ومن هنا أعود لنظرية «الضيافة» الفلسفية التي كتبها الصديق الدكتور عبدالله المطيري في كتابٍ بعنوان «فلسفة الآخرية.. الآخر بين سارتر وليفيناس وبهجة الضيافة». يقول المطيري: «الضيافة ليست علاقة أحادية معزولة عن شبكة العالم الأوسع، بل شكل من أشكال الوجود في العالم بكل ما في هذا الوصف من تفاصيل. الضيافة، ليست مجرد مكان بديل لمكان آخر بل هي عملية خلق كاملة لعالم بديل للضيف».
والخلاصة هي أن تطوّر التواصل من الضروري أن يصحبه وعيٌ مختلف. وموجات التطور التقنيّ تحتم علينا ابتكارَ سلوك متوازن في التعاطي مع الآخرين، لا سيما أن ثمة تغييرات كبرى حدثت من دون أن ندركها، وقد أدت وستؤدي إلى حدوث تغير في مستوى استعداد الآخر لمهاتفته أو لمقابلة الغرباء. الحلّ سهلٌ إلى حد كبير، وهو أن نعترف بضرورة تغيير أساليبنا وبأهمية الانتقال إلى مستوى حضاري في أدبيات التواصل، وأن نعتمد مقولةَ «الاتصال حالة ضيافة» لها طقوسها وآداب احترامها.