لبنان دولة للضيوف لا لأهلها

لبنان دولة للضيوف لا لأهلها

لبنان دولة للضيوف لا لأهلها

 العرب اليوم -

لبنان دولة للضيوف لا لأهلها

بقلم : سام منسى

لم تكن زيارة البابا ليو الرابع عشر إلى لبنان حدثاً دينياً يقفز اللبنانيون فوقه ليُنسى، بل تحول إلى مرآة كاشفة: ثلاثة أيام تكفي لرؤية ما يحاول لبنان إخفاءه منذ عقود. ففي بلد يتقن فن تجميل الخراب، ظهر لبنان فجأة قادراً على ما يدعي عجزه عنه طوال سنوات الانهيار: تعبيد الطرقات؛ حيث يمر موكب البابا بين ليلة وضحاها، وتأمين الكهرباء، وتنظيم آلاف المتطوعين، وحشد مئات الآلاف، وضبط أمن لم يفلح في حماية سياسي أو قاضٍ، أو توقيف مهرب، أو احترام قرار قضائي. بدا المشهد كأنه إعلان رسمي بأن لبنان ليس دولة منهارة، بل دولة تختار الانهيار حين لا تكون الصورة مطلوبة.

لبنان الذي رأيناه خلال الزيارة هو النسخة الخادعة التي تهرع السلطات الحاكمة لإحيائها كلما احتاجت إلى استعراض دولي. والمفارقة ليست في هذا الجهد المؤقت، بل فيما يكشفه: البلد لا يفتقر إلى الإمكانات، بل إلى الإرادة. لا يعاني نقصاً في التنظيم، بل فائضاً في تعطيل إرادة التنظيم. اللبنانيون لا يعجزون عن الحشد، بل عن الحشد لمواجهة المخاطر الوجودية وللدفاع عن حقوقهم. ما يُسمى عجزاً هو سياسة: سلطة وشعب يفضلان البقاء معلقين بين دولة غائبة وواجهة احتفالية تُخفي العطب ولا تعالجه.

فحين يتعلق الأمر باستقبال البابا تُصبح الدولة فجأة دولة فعلية: الإدارات تنضبط، والأجهزة تنسق بلا ارتباك، والبلديات تُفعّل، والإعلام يتوحد، والخصومات تتوقف. وما إن يغادر الضيف حتى تتداعى هذه الدولة، وتعود البلاد إلى طبائعها: طوائف تتربص ببعضها، وكهرباء مقطوعة، ومؤسسات محطّمة، ومواطن مرهق لا يقوى على الدفاع عن خبزه ودوائه ومدرسته. كيف يمكن لشعب يصمت على حرمانه من الطبابة والتعليم والكهرباء والمياه، أن يخرج بالآلاف لتحية البابا؟ كيف يمكن لنظام ينهار منذ عقود أن يُقدم نفسه للعالم بلداً مستقرّاً قادراً على استقبال أهم شخصية دينية مسيحية؟

التناقض لم يظهر في اللوجيستيات فقط، بل انسحب على الخطاب الرسمي، فالحكام لم يتحدثوا في السياسة، ربما لأن السياسة أصبحت في لبنان الفضيحة التي لا يمكن تجميلها. اكتفوا بتدوير شعارات أصبحت تماثيل لغوية، وأدوات تجميل سياسي فقدت معناها بعدما تناقضت الممارسات معها: «لبنان الرسالة»، «لبنان الصامد»، «لبنان نموذج العيش المشترك». لبنان الرسالة والصمود والنموذج لا يُهدد قاضياً يُحقق في جريمة العصر، ولا يُخضع اقتصاده للفاسدين، ولا يحكمه سلاح خارج الدولة.

على النقيض، بدا البابا، رجل الدين، السياسي الأكثر وضوحاً. لم يقل إن لبنان «رسالة»، بل قال إنه «مسؤولية». لم يدعُ إلى العيش المشترك بوصفه شعاراً، بل إلى «سلام فعلي» يترجم في التشريعات والمؤسسات لا في الخطب والمناسبات. طالب اللبنانيين بأن يتصالحوا مع أنفسهم قبل أن يطالبوا العالم بالوقوف معهم، وأن يخرجوا من وهم الدور التاريخي إلى فعل الدولة الحديثة، دولة الحقوق لا دولة الأساطير. دعا إلى سلام داخلي ينهي الانقسام داخل الطائفة الواحدة ومع الطوائف الأخرى، وإلى سلام يُخرج لبنان من موقع الخندق إلى موقع الدولة. لم يتعامل مع لبنان بوصفه رمزاً، بل دولة غير منجزة تحتاج إلى إرادة تأسيس، لا إلى احتفالات تُدندن على الأطلال.

ولم يكن اختيار البابا شعار زيارته «طوبى لصانعي السلام» تفصيلاً لغوياً، بل جوهر رسالته. فقد كانت كلمة «السلام» محوراً لخطبه، كررها بإيقاع مقصود، وكأنه يريد استبدال قاموس السلام بقاموس الحرب. دعا اللبنانيين إلى الانخراط في مسار السلام الإقليمي، لا بصفتهم مشاهدين بل فاعلين، وبناء سلام داخلي يداوي شروخ الطوائف، وسلام مع محيطهم والعالم.

ذروة المفارقة تجلّت في حضور «حزب الله». فالحزب، الذي شارك في مراسم الاستقبال بدا جزءاً من لوحة «الوحدة اللبنانية»، فيما ممارساته اليومية تناقض أبسط شروط الوحدة. كيف لقوة تُصادر القرار خارج المؤسسات، وتُعطل العدالة، أن تحتفي بزيارة من يطالب بدولة وقانون واحد وإحقاق الحق؟ هذا الاحتضان الشكلي للزيارة، يقابله سلوك فعليّ يرسخ الانقسام، ويُجسد النموذج اللبناني: استيراد الرمزية ودفن المعنى، المشاركة في الطقوس ورفض الانخراط في الأسس.

لم يكن البابا بحاجة إلى ثلاثة أيام ليفهم أن لبنان ليس عاجزاً، بل يختار العجز، فهو بلد يُدار بمنطق المناسبة لا بمنطق المؤسسة، بمنطق اللحظة لا بمنطق الاستدامة. لا يبني سياسات بل يبني مناسبات، ولا يؤسس لنظام بل يُعد ديكوراً يتم تفكيكه عند انتهاء العرض. ينهض بكفاءة حين يشاهده العالم، ويعود إلى انهياره حين ينصرف الضوء عنه. ليست المشكلة في القدرة، بل في استدعائها لتجميل الواقع لا لتغييره لتصبح الدولة ممثلة تحفظ دورها عند وصول الضيوف، وتنساه عند رحيلهم. السؤال: هل يريد اللبنانيون دولة حقيقية، أم مناسبة تُظهر لهم صورتهم كما يتخيلونها؟ كالعادة، اختار لبنان الجواب السهل: الصورة بدل البنية، والاستعراض بدل القرار، والمشهد بدل الدولة.

arabstoday

GMT 10:18 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

«يونان».. الحياة تقف على باب الموت!!

GMT 10:14 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

حلم الدكتور ربيع!

GMT 10:10 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

الأفكار الكبرى

GMT 10:08 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

أنا والعمود الصحفى

GMT 10:05 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

التنوير .. والليبرالية

GMT 10:02 2025 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

حين تسقط العدالة!

GMT 21:58 2025 الثلاثاء ,09 كانون الأول / ديسمبر

الدَّرس

GMT 21:56 2025 الثلاثاء ,09 كانون الأول / ديسمبر

الهجوم على خالد بن الوليد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لبنان دولة للضيوف لا لأهلها لبنان دولة للضيوف لا لأهلها



أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 23:08 2025 الثلاثاء ,09 كانون الأول / ديسمبر

تدابير الفيفا لمواجهة الحرارة في المونديال
 العرب اليوم - تدابير الفيفا لمواجهة الحرارة في المونديال

GMT 12:04 2025 الثلاثاء ,09 كانون الأول / ديسمبر

دراسة تؤكد أن انتظام مواعيد النوم يخفض ضغط الدم ويحمي القلب
 العرب اليوم - دراسة تؤكد أن انتظام مواعيد النوم يخفض ضغط الدم ويحمي القلب

GMT 13:21 2025 الإثنين ,08 كانون الأول / ديسمبر

هل ما زالت الثقافة مهمة؟

GMT 12:43 2025 الإثنين ,08 كانون الأول / ديسمبر

وفاة الفنان سعيد مختار في مشاجرة أمام ناد شهير بأكتوبر

GMT 15:26 2025 الإثنين ,08 كانون الأول / ديسمبر

الكاف يكشف التميمة الرسمية لكأس أمم إفريقيا في المغرب

GMT 12:18 2025 الإثنين ,08 كانون الأول / ديسمبر

نتنياهو يعلن رغبته في اتفاق يضمن خلو جنوب سوريا من السلاح

GMT 19:30 2025 الإثنين ,08 كانون الأول / ديسمبر

تقرير يكشف استبعاد بلير من عضوية "مجلس السلام" في غزة

GMT 12:11 2025 الأحد ,07 كانون الأول / ديسمبر

ترمب يشيد بأندريا بوتشيلي ويصف صوته بصوت ملاك

GMT 13:07 2025 الأحد ,07 كانون الأول / ديسمبر

أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab