الاستباقية السعودية ولحظة التحول للاقتصاد العالمي

الاستباقية السعودية... ولحظة التحول للاقتصاد العالمي

الاستباقية السعودية... ولحظة التحول للاقتصاد العالمي

 العرب اليوم -

الاستباقية السعودية ولحظة التحول للاقتصاد العالمي

بقلم : يوسف الديني

لم يكن الاقتصاد السياسي في أي مرحلة من التاريخ بعيداً عن لعبة القوة، ولا عن إعادة تشكيل موازين العالم، لكن ما نشهده اليوم مختلف من حيث السرعة والتداخل، فالثورات التكنولوجية والبيئية والعسكرية تتقاطع لتصنع نظاماً جديداً تتحرك فيه الدول بين صعود وتراجع؛ وفقاً لمدى استعدادها للتكيف مع هذه التحولات. في هذا السياق، تبدو السعودية في موقع استثنائي، إذ لا تكتفي بالتأقلم، بل تسعى إلى صياغة مستقبلها وموقعها من خلال «رؤية 2030» التي جعلت الاستباق والابتكار قاعدة في إدارة الإمكانات والمكانة، وهي تتمحور حول الاستثمار في الإنسان السعودي وازدهاره.

يشهد العالم انتقالاً تاريخياً من الاعتماد على الوقود الأحفوري إلى بدائل نظيفة، مثل الطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر والرياح. هذا التحول ليس جديداً في جوهره، فقد عرف القرن التاسع عشر ثورة الفحم، ثم شهد القرن العشرون ثورة النفط، لكن الجديد هو طابعه الكوني المرتبط بالضغوط البيئية والسياسية لمكافحة التغير المناخي. وبينما تضع أوروبا خططاً لعدم الاعتماد على النفط بشكل كلي، وتضخ الصين استثمارات هائلة في البطاريات والسيارات الكهربائية، وتنافس الولايات المتحدة على ريادة الهيدروجين، يظل النفط أساسياً في الصناعات والبتروكيماويات. هنا تظهر السعودية برؤية متوازنة ومختلفة، فهي لم تنتظر حتى يصبح التحول متطلباً، بل تعاملت مع التحديات المقبلة بشكل استباقي، حيث أطلقت مشاريع كبرى، مثل «نيوم»، و«أوكساغون»، في مجال الهيدروجين الأخضر، لتتحول من مجرد مصدر للطاقة التقليدية أو «المستنفذة» إلى لاعب رئيسي في سوق الطاقة المستدامة.

التحول في مجال الطاقة ليس مجرد تغيير في المصادر، بل ثورة اقتصادية تشبه الثورة الصناعية. فمن يملك التكنولوجيا يملك أدوات النفوذ، كما هي الحال مع وقود القرون المقبلة «البيانات»، ومثلما كانت السيطرة على خطوط النفط والغاز في القرن العشرين أداة سياسية وعسكرية. واليوم سيصبح امتلاك تقنيات البطاريات والهيدروجين سلاحاً استراتيجياً. التاريخ يثبت أن الثورات الصناعية دائماً ما أعادت تشكيل موازين القوى: بريطانيا بالفحم والآلة البخارية، وأميركا بالنفط والكهرباء، والصين اليوم بالطاقة الخضراء. والسعودية تدرك أن موقعها يجب أن يكون متقدماً في هذا السباق، لذا تبنّت مبادرتي «السعودية الخضراء» و«الشرق الأوسط الأخضر»؛ لبناء شبكة نفوذ وشراكات نوعية تعزز من مكانتها التي تأملها، بصفتها مركزاً لنقطة جذب وحوار عالمي حول المناخ والتنمية.في الوقت ذاته، تتغير سلاسل الإمداد العالمية. فجائحة «كورونا»، ثم الحرب في أوكرانيا أعادتا تشكيل خريطة الاقتصاد السياسي، خصوصاً في تجلياته العولمية. لم تعد الدول الكبرى تثق بالاعتماد على سلاسل بعيدة، فبرزت سياسات مثل «إعادة التوطين»، و«القرب من الأسواق». الهند تطرح نفسها بديلاً عن الصين، والمكسيك تستفيد من قربها من أميركا، وأوروبا تبحث عن شركاء في المتوسط وأفريقيا. العالم يتَّجه نحو التكتلات والشركات المستدامة لا الشبكات المفتوحة. في هذا السياق، تقدم السعودية نفسها بصفتها محوراً لوجيستياً عالمياً بفضل موقعها الجغرافي بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، ومشاريعها مثل «ممر الملك سلمان البري»، والمواني الجديدة والمتجددة، بهدف أن تكون نقطة وصل مركزية في التجارة العالمية.

في الجانب العسكري، التحولات الاقتصادية ليست بمعزل عن الهواجس الأمنية. العالم يعيش سباق تسلح جديداً؛ الحرب الروسية الأوكرانية أعادت عسكرة أوروبا، والصين تزيد إنفاقها لموازنة الولايات المتحدة في آسيا، وواشنطن تعيد نشر قواتها وتحالفاتها. والتاريخ يخبرنا أن كل ثورة اقتصادية رافقتها عسكرة موازية: الثورة الصناعية أعقبتها الحروب النابليونية، والثورة النفطية رافقتها الحربان العالميتان والحرب الباردة، واليوم تأتي ثورة الطاقة الخضراء في ظل سباق محموم على التسلح. السعودية من جانبها تُعزز قدراتها الدفاعية عبر صفقات تسليح نوعية، واستثمارات في الصناعات العسكرية المحلية، ومبادرة المحتوى المحلي، بما يعكس إدراكها أن حماية الموارد وتحصين المكانة شرطٌ لمراكمة القوة وتعزيزها.

هذه التحولات الأربعة تتقاطع لتحدد من سيصعد ومن سيتراجع في هذا العالم شديد السيولة. أوروبا تواجه أزمة طاقة وتحديات ديمغرافية، والصين تسابق الزمن لتفادي فخ الشيخوخة الاقتصادية، والولايات المتحدة لا تزال الأقوى عسكرياً وتكنولوجياً، لكنها تعاني من تحديات داخلية وهويّاتية تهدد تماسكها، إضافة إلى استراتيجيتها المرتبكة في الانسحاب من المنطقة والبقاء فيها. في المقابل، تبرز قوى صاعدة، مثل السعودية والهند، بفضل استثماراتهما في التكنولوجيا والبنية التحتية، وقدرتهما على الجمع بين موارد الطاقة التقليدية والبديلة. هذا «الهجين الذكي» بين القديم والجديد هو ما يمنح ميزة تنافسية في عالم سريع التحول.

وسط هذه اللوحة المعقدة، تبدو الرياض دولة لم تكتف بالدفاع عن موقعها المتميز، بل تبادر إلى إعادة تعريفه وفق الشروط والتحديات الجديدة.

والحال أن «رؤية 2030» ليست مجرد خطة اقتصادية فحسب، بل هي مشروع فلسفي عميق لإعادة صياغة العلاقة بين الثروة والمكانة والإنسان والمقدرات. فهي تطرح السعودية بوصفها قوة استثمارية وتكنولوجية وبيئية ولوجيستية في آن واحد. عبر تنويع الاقتصاد، والاستثمار في الطاقة المتجددة، وبناء مراكز جذب صناعية ولوجيستية، وتعزيز القدرات الدفاعية، وضعت المملكة نفسها في موقع يمكنها من التعامل مع كل التحولات مجتمعة. ولذلك ليس من قبيل المديح أو المبالغة أن نصف السعودية في زمن الرؤية بأنها «الدولة الاستباقية» الأكثر بُعداً عن ردود الأفعال، وهذا ما يؤهلها بضمان موقعها وسط التنافس المحموم بين القوى الكبرى.

خلاصة القول، إن الاقتصاد السياسي للعالم يدخل مرحلة انتقالية تشبه المخاض التاريخي، هناك من سيتراجع لتأخره في الاستجابة، وهناك من سيصعد لامتلاكه رؤية استباقية واقعية قادرة على التكيف والمراجعة والاختبار.

المملكة اليوم بفضل رؤيتها الطموحة ومشروعها التحولي الشامل تقف في مصاف الدول الصاعدة بقوة، وهي لا تراهن فقط على النفط أو على الطاقة الخضراء، بل على مزيج استراتيجي يجعلها في قلب التحولات، فالمستقبل ليس لمن يملك الموارد فقط، بل لمن يحسن إدارتها في لحظة تاريخية تتقاطع فيها السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا. الرياض تبدو اليوم أكثر استعداداً من أي وقت مضى لتكون في طليعة هذا المستقبل الجديد.

 

arabstoday

GMT 12:01 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

صدقوني إنها «الكاريزما»!

GMT 11:53 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إحياء الآمال المغاربية

GMT 11:50 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

النار في ثياب ترامب

GMT 11:40 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

.. وفاز ممداني

GMT 11:07 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

التاريخ والجغرافيا والمحتوى

GMT 10:59 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

مرة أخرى.. قوة دولية فى غزة !

GMT 10:56 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

حلم المساواة

GMT 10:24 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

عرفان وتقدير

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاستباقية السعودية ولحظة التحول للاقتصاد العالمي الاستباقية السعودية ولحظة التحول للاقتصاد العالمي



نجمات مصريات يجسّدن سحر الجمال الفرعوني في افتتاح المتحف المصري

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:52 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إقبال تاريخي على المتحف الكبير في مصر مع زيارات غير مسبوقة
 العرب اليوم - إقبال تاريخي على المتحف الكبير في مصر مع زيارات غير مسبوقة

GMT 16:15 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمم المتحدة تطلق حملة تطعيم واسعة للأطفال في غزة
 العرب اليوم - الأمم المتحدة تطلق حملة تطعيم واسعة للأطفال في غزة

GMT 10:05 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

ياسمين صبري تعلّق على افتتاح المتحف المصري الكبير
 العرب اليوم - ياسمين صبري تعلّق على افتتاح المتحف المصري الكبير

GMT 10:58 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

مرقص حنا باشا!

GMT 10:01 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

سجن إلهام الفضالة بسبب تسجيل صوتي

GMT 21:03 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمير هاري يبعث رسالة خاصة لأبناء بلده من كاليفورنيا

GMT 04:36 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

وزير إسرائيلي يدعو لمناقشة تعاظم قوة الجيش المصري

GMT 22:11 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

تفاصيل خطة تشكيل القوة الدولية لحفظ الأمن في غزة

GMT 05:00 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل تعلن تسلمها رفات رهينة ونقله إلى معهد الطب الشرعي

GMT 10:13 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

ابتكار جديد يعيد للأسنان التالفة صحتها دون الحاجة إلى جراحة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab