الشرق الأوسط عند مفترق طرق

الشرق الأوسط عند مفترق طرق

الشرق الأوسط عند مفترق طرق

 العرب اليوم -

الشرق الأوسط عند مفترق طرق

بقلم : يوسف الديني

تدخل المنطقة لحظة فارقة تقترب من حسم تاريخي طويل التأجيل، وسط انهيار تدريجي لمحور شمولي لطالما تغذّى على الآيديولوجيا والميليشيات وتصدير الأزمات. فالمشروع الإقليمي الذي استثمر لسنوات في الفوضى والسيطرة بالوكالة بدأ بالتراجع، ليس فقط تحت وطأة الضغوط الإقليمية والدولية، بل بفعل التآكل الداخلي في أدواته وشبكاته، حيث تتكشف هشاشته أمام اختبارات الدولة الحديثة وممكنات التغيير العميق. ولم تعد الشعارات المكرّرة، ولا القوة الميليشياوية قادرتين على إنتاج استقرار أو بناء سيادة حقيقية، بل أصبح ذلك عبئاً على الشعوب، وعقبة أمام اللحاق بموجة التحديث والإصلاحات المؤسسية التي باتت خياراً لا مفر منه.

وفي مواجهة هذا الفراغ، تتقدّم دول الاعتدال، وفي مقدّمتها السعودية، بنموذج بديل يعيد الاعتبار لمنطق دولة المواطنة، ويقدّم مقاربة أمنية تنموية متكاملة تتجاوز المعالجات الظرفية أو الخطابات الآيديولوجية الجوفاء، نموذج يربط بين الاستقرار ومكافحة التطرف من جهة، وبين التنمية المستدامة وبناء تحالفات واقعية من جهة أخرى، من دون الارتهان للمظلات الخارجية أو التورط في محاور متصارعة. لقد أفرزت هذه الرؤية مساراً استباقياً ومتعدد المسارات، تُبنى فيه السياسات على إدارة الفراغات التي خلّفها انسحاب اللاعبين الدوليين، لا سيما في سوريا ولبنان، وعلى تفكيك منطق التبعية والوكالة الذي كان السمة الأبرز للمشروع الإيراني منذ بداياته.

وفي هذا السياق، لا يمكن فهم التحولات الجارية في لبنان وسوريا إلا بأنها جزء من هذا الانتقال نحو شرق أوسط جديد. ففي لبنان، ورغم استمرار التعثّر في بناء دولة مركزية تتجاوز نموذج «الدولة داخل الدولة»، بدأت بنية «حزب الله» تتعرض لتآكل غير مسبوق، نتيجة لمعادلة أمنية إقليمية جديدة تفرضها الوقائع لا التوازنات القديمة. ومع انتخاب قيادة سياسية لبنانية أكثر توافقاً مع منطق الدولة، وبروز دعم دولي صريح لاستعادة القرار السيادي، يتحول الجنوب اللبناني من ساحة نفوذ إيرانية إلى منطقة اختبار حقيقي لجدوى إعادة التأسيس الجديد المبني على المواطنة.

في المقابل، تخوض سوريا اليوم معركة مزدوجة: مواجهة بقايا «تنظيم داعش»، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة ضمن مسار شديد التعقيد، سواء في استيعاب كل المكونات أو التخلص من حالة الثورة للدولة، وعلى رأس ذلك ملف المقاتلين الأجانب، وسوريا تسع السوريين دون تمييز.

ما يعقّد هذا المشهد هو الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأميركي، وتراجع قدرة الشركاء المحليين، خصوصاً قوات سوريا الديمقراطية، على ضبط السجون والمخيمات التي تضم آلاف المتشددين وعائلاتهم. وتدل المؤشرات على نمط جديد من التمرد المرن، كما ظهر في هجوم الميادين الأخير، ما يشي بأن التنظيم يتأقلم مع المتغيرات ويستغل الثغرات؛ لذا فإن تحدي «داعش» لم يعد شأناً محلياً، بل هو تهديد إقليمي يتطلب تنسيقاً متعدد الأطراف، لا سيما مع الانكشاف الأمني في مناطق مثل دير الزور ومحيطها.

من هنا، تبرز أهمية النموذج السعودي بوصفه رافعة إقليمية لإعادة صياغة تحالف مكافحة الإرهاب، لا بوصفه التزاماً أمنياً، بل بأنه جزء من مشروع إقليمي أوسع يعيد إنتاج الاستقرار من خلال عدوى النموذج الناجح، ومن هنا فإن قراءة الحضور السعودي في دعم الإدارة السورية المؤقتة من زاوية أمنية وكيف قدمت فرصة ذهبية في الرهان على الاستقرار، وحث المجتمع الدولي وإدارة ترمب على رفع العقوبات في بُعده الأمني فحسب خطأ كبير، لأن ذلك يُعبّر عن تحول كبير ونوعي في فهم طبيعة التهديدات وأدوات مواجهتها، عبر دمج الملفات الأمنية والسياسية، وتفكيك بيئة الحواضن الفكرية والاجتماعية للتطرف.

على عكس تجارب سابقة اتكأت على القوة الصلبة دون معالجة جذرية، يقدّم النموذج المعتدل السعودي مقاربة تنموية، تدمج الأمن بالإصلاح، والسيادة بالاستثمار في الداخل.

إلا أن نجاح هذا المسار يظل مشروطاً بقدرة دمشق على إثبات الجدارة والالتزام، خصوصاً في إدارة ملف السجون والمخيمات، وتحقيق نوع من التفاهم مع قوات سوريا الديمقراطية، لا على أساس الإقصاء أو الإلغاء، بل من خلال تعاون واقعي يقدم مصلحة سوريا.

وفي السياق ذاته، فإن المقاربة للملف السوري يجب أن تتسم من الدول المؤثرة بحساسية وتعالٍ على المصالح الضيقة.

نحن أمام اختبار تاريخي لقدرة الشرق الأوسط على إنتاج معادلته الأمنية والسياسية من داخل نسيجه، بعيداً عن الهيمنة أو التدخلات الفوقية. فإذا نجحت دول الاعتدال، وفي مقدّمتها السعودية، في تحويل هذا الزخم إلى منظومة دائمة لتثبيت الاستقرار، وإذا استطاع لبنان أن يُعيد ترميم مؤسسات الدولة دون الخضوع لمنطق السلاح الموازي وكيانات ما دون الدولة، وسوريا أيضاً التي أمامها تحدي إعادة رسم أولوياتها الأمنية بالشراكة لا بالإقصاء، فإننا سنكون أمام شرق أوسط جديد لا يشبه الخرائط القديمة، بل يتجاوزها نحو واقع براغماتي أكثر قدرة على الصمود والشراكة، بعيداً عن شبح الانهيار الذي سيكون إن حدث، لا قدر الله، حلقة قاتمة من حلقات العنف التي ستعيد المنطقة إلى سرديات الفوضى مجدداً.

 

arabstoday

GMT 16:36 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

ملكة القنوات

GMT 16:36 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

السعودية وباكستان و«ضربة معلم»

GMT 16:35 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

نقش «سلوان» وعِراك التاريخ وشِراكه

GMT 16:33 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

السعودية وباكستان... تحالف جاء في وقته

GMT 16:31 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

أين تريد أن تكونَ في العام المقبل؟

GMT 16:30 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

افتح يا سمسم

GMT 16:29 2025 الأحد ,21 أيلول / سبتمبر

مأزق الليبرالية البريطانية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الشرق الأوسط عند مفترق طرق الشرق الأوسط عند مفترق طرق



نقشات الأزهار تزين إطلالات الأميرة رجوة بلمسة رومانسية تعكس أناقتها الملكية

عمّان - العرب اليوم

GMT 11:05 2025 الجمعة ,19 أيلول / سبتمبر

شيرين عبد الوهاب أمام القضاء بتهمة السبّ والقذف

GMT 03:18 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 06 سبتمبر/ أيلول 2025
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab