فى المناسبات، الأعياد تحديدا، كان أبى يصطحب أبناءه الخمسة لزيارة كل من شقيقيه الكبيرين كامل ومأمون.
كنت ألاحظ شغفا عند عمى كامل بأطفال ابن أخيه، يتبسط معهم، يسألهم ويداعبهم، بينما عمى مأمون ليست لديه هذه الرحابة، يعيش أساسا مع سبعة أطفال ولا يفكر فى المزيد، بينما عمى كامل لم يتزوج، ولهذا كان شغوفا بأبناء أشقائه.
وفى نهاية اللقاء، هناك الفقرة الختامية تتفوق فى الأهمية على فقرة الساحر فى أعياد الميلاد، ينتظرها الجميع، ويحلمون بها فى اليوم السابق، إنها (العيدية)، ويبدأ عمى كامل توزيع العيدية، خمسة جنيهات، رقم ضخم جدا، بمقياس تلك الأيام، كنت احدد قيمته، عند مقارنته بالجنيه الذى كان يمنحه لى فى نفس المناسبة عمى مأمون.
هناك أيضا مسابقات جانبية يجريها عمى كامل فى العربى والحساب، وكنت قبل أن أتعلم القراءة، أحفظ كل أبيات قصيدة له كتبها عن (جميلة بو حيرد) المناضلة الجزائرية، وتلك كانت لها مقابل جنيه بالتمام والكمال، أتذكر أول شهادة منحها لى عمى كامل عندما قال لأبى (طارق لا يحمل شهادة الابتدائية ولكنه حاصل على شهادة نادرة الاستعدادية).
عاش الشاعر والصحفى الكبير كامل الشناوى على هذه الأرض ٥٣ عاما ولد ١٩٠٨ ورحل ١٩٦٥، لم يُصدر فى حياته سوى ديوانا واحدا (لا تكذبى)، بينما بعد الرحيل قرأنا عشرات من المقالات تغض الطرف عن كل شيء ولا يعنيها سوى تأكيد قصة (لا تكذبى)، بل أن الكاتب الروائى الكبير إحسان عبد القدوس استلهم جانبا منها فى رواية أطلق عليها (وعاشت بين أصابعه)، ومسلسل (السندريلا) أقحم مشهد عيد ميلاد (نجاة) فى الأحداث لتأكيد القصة المفبركة، وربما أعود قريبا بشئ من التفصيل، للأكاذيب وراء لا تكذبى.
كان كامل الشناوى يشعر أنه سيغادر الحياة مبكرا، ولهذا كتب وصية لأحد أقرب تلاميذه إلى قلبه، الكاتب الساخر الكبير أحمد رجب يقول له (يا أحمد أنت تصغرنى بعشرين عاما وسوف تعيش بعدى وأوصيك بأن تكتب مذكراتى). ولم ينفذ الأستاذ وصية كامل الشناوى، وكثيرا ما كنت أسأله فكان يقول لى: (قريبا ستقرأ)، ورحل الأستاذ أحمد رجب بعد كامل الشناوى بنحو ٥٠ عاما، ولم ينفذ وصية كامل الشناوى، وكان يقول لى دائما لو تنبهنا وقتها، وكنا نسجل أحاديث كامل الشناوى لأصدرنا عشرات الكتب.
ساخر كبير أيضا وأحد من أشهر وأخلص تلاميذه، محمود السعدنى، كتب عن كامل الشناوى فصلا فى كتابه الممتع (الظرفاء)، وأصر على أن يكتب المقدمة كامل الشناوى، ورحل كامل الشناوى قبل أن يقرأ الكتاب.
ذكر السعدنى العديد من الحقائق التى عاشها مع الشاعر الكبير، ولكن بعد الرحيل وجدنا الكل يأخذ كلمة من هنا وأخرى من هناك، ويدعون أشياء لم تحدث، بعضهم استغل كتاب السعدنى وأضاف حكايات أخرى لا علاقة لها بالواقع، وأغلبهم اختصر تاريخ كامل الشناوى فى قصة واحدة وقصيدة واحدة (لا تكذبى) رغم أنها مجرد خيال فى خيال فى خيال.
كان عمى فى حياته يرفض أن يصدر كتابا، لأنه أدرك حجم المسؤولية التى يعنيها أن يخترق حاجز الزمن، كتاب يحمل اسمه، كنت كثيرا ما أقرأ ما يكتب عنه بحكايات يرويها توفيق الحكيم ومصطفى وعلى أمين وإحسان عبد القدوس وأم كلثوم ويوسف إدريس ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم وبليغ حمدى وكمال الطويل وفتحى غانم وسناء جميل وغيرهم من الكبار، بدأت أقرأ وأستعيد القصاصات الصحفية، بعض الكتب أصدرها عمى الشاعر والصحفى الكبير مأمون الشناوى تضم بعض ما كتبه شقيقه الكبير، ووجدت أمامى كنزا لا ينفد من الإبداع الساخن الساحر.
أعترف لكم كم أنا مُقصر، ليس لأنه عمى، ولكن لأنه قامة وقيمة إبداعية فى الصحافة والشعر، حتى إنهم فى برنامج إذاعى يستضيف فنانًا وصحفيًا ليتبادلا المواقع سألته نجاة بأى صفة تريد أن تدخل عالم الخلود الشاعر أم الصحفى؟ أجابها: (أدخل بصفتى شاعرًا وهناك أمارس الصحافة).
بين الحين والآخر، أستعيد كثيرًا من كتابته النثرية وأشعاره وازددت فخرا واعتزازا بها وفى نفس الوقت، أشعر بالذنب، كم أنا مقصر ليس فى حقه، ولكن فى حق القراء، لأننى لم أوثق كل ذلك بين دفتى كتاب، حتى يوقف تلك الحالة من الاستثمار العشوائى لاسم كامل الشناوى!!.