خرافة النّكبة الشّيعيّة

خرافة النّكبة الشّيعيّة

خرافة النّكبة الشّيعيّة

 العرب اليوم -

خرافة النّكبة الشّيعيّة

بقلم : نديم قطيش

عادت فكرة “مظلوميّة الأمّة الشيعيّة” العابرة للحدود الوطنيّة لتطلّ برأسها من بوّابة أنّ تفكّك محور الميليشيات الإيرانيّة أو ما يسمّى “محور المقاومة”، سيطلق العنان لردّ فعل شيعيّ عنيف وخطير، ما لم يُصَر، بضغط من القوى الغربيّة والدول الإقليميّة، إلى “دمج” البيئات الشيعيّة في أنظمة سياسيّة جديدة.

هذه خلاصة مقالة مطوّلة في مجلّة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) كتبها ولي نصر وماريا فانتابي، ومحورها أنّ الصراع السنّيّ الشيعيّ هو المبدأ الناظم الذي يفسّر ديناميّات الشرق الأوسط.

لا يكتفي هذا الطرح بتشخيص خاطئ للّحظة الحاليّة التي أنتجتها هزيمة “الحزب” وسقوط نظام الأسد، بل يسيء قراءة الفاعلين المعنيّين، ويتخيّل “مظلوميّة شيعيّة” شاملة عابرة للحدود، ليس لها أيّ أساس في السياسات المعلنة أو الحقائق المعيشة للمجتمعات الشيعيّة من بيروت إلى بغداد إلى صنعاء.

وإن وُجدت لها ملامح هنا أو هناك، فهي مظلوميّة أنتجتها أيديولوجية مُصطنَعة، وليست شعوراً مجتمعيّاً عضويّاً.

الدّمج فكرة سورياليّة

في لبنان، تبدو الدعوة لدمج الشيعة في النظام السياسيّ فكرة سورياليّة تماماً. على مدى ثلاثة عقود كان الشيعة، بقوّة الدستور قبل قوّة الوقائع السياسيّة الذاتيّة أو الإقليميّة، هم محرّك النظام السياسيّ. لم يعانِ الشيعة من أيّ قصور تمثيليّ، في جميع مفاصل الدولة الأساسيّة: الوزارات، النظام القضائيّ، الأجهزة الأمنيّة، الجيش. وضُمنت حصّتهم الوازنة من الإنفاق العامّ وصناديق الرعاية.

فوق ذلك، ظلّ الشيعة الطائفة الكبرى الوحيدة التي لديها جيش خاصّ تحت ستار “المقاومة”. الإقصاء كان من نصيب المسيحيّين الموارنة بعد أن تولّت “سوريا الأسد” تنفيذ نسخة مشوّهة من اتّفاق الطائف 1989، تمحورت حول نفي أو سجن قادة المجتمع المسيحيّ.

إذا كان من إحباط في لبنان اليوم فهو إحباط السنّة بعد أن قتل “الحزب” زعيم الطائفة التاريخيّ رفيق الحريري عام 2005، وانسحب لاحقاً وريثه الرئيس سعد الحريري من الحياة السياسيّة.
الستارة تُسدل على ما يسمّى محور المقاومة. ما سيأتي بعد الهزيمة لن يكون ردّ فعل شيعيّاً عنيفاً على مظلوميّة متوهَّمة

حقيقة الأمر أنّ الضرورة السياسيّة الملحّة في بيروت اليوم ليست زيادة تمكين الشيعة، بل تنفيس تضخّمهم السياسيّ المدعوم إيرانيّاً، والعودة بالطائفة الى سويّة التكافؤ السياسيّ مع الآخرين.

في العراق الأزمة سنّيّة

تصبح حجّة المظلوميّة الشيعيّة أكثر سورياليّة بالحديث عن العراق، حيث تدير النخبة السياسيّة الشيعيّة الدولة، بشكل شبه حاسم منذ إطاحة واشنطن بصدّام حسين عام 2003. إنّ أزمة الإقصاء الحقيقيّة في العراق هي أزمة سنّيّة بعد أن فُكّكت القوى السياسيّة السنّيّة ودُمّرت الحواضر وجرى وصم السنّيّة السياسيّة بالارهاب.

الأمّة الشّيعيّة

أمّا المفارقة الأكثر سطوعاً فهي أنّ الانتفاضة الشعبيّة الكبرى عام 2019، التي هيمن عليها اللون الشيعيّ، لم تكن بغرض طلب حماية العراقيّين الشيعة من السنّة، بل كانوا يحرقون القنصليّات الإيرانيّة وصور رموز النظام السياسيّ في طهران ويلعنون قادة الميليشيات الذين استولوا على حكومتهم السياديّة.

كان مطلب الأغلبيّة المدنيّة الشيعيّة هو دولة عراقيّة ذات سيادة، وليس إقطاعيّة طائفيّة تابعة لإيران. هذا ما أظهرته نتائج الانتخابات الأخيرة التي صوّتت فيها أكثريّة عراقيّة ضدّ الأطراف المحسوبة على بيئة الميليشيات والفصائل.

أمّا في سوريا فالعَلويّون ليسوا من الشيعة الاثني عشريّة. لقد كان التحالف بين طهران ونظام الأسد شراكة جيوسياسيّة قائمة على المصالح المتبادَلة، وليس نتيجة يقظة دينيّة تزعّمتها إيران. إنّ التحدّي الذي يواجه العلويّين في سوريا ما بعد الأسد هو تحدٍّ يواجهه الدروز والأكراد بحدّة أكبر نتيجة التجاذب حول شكل النظام السياسيّ ومعالجة رواسب الحرب الأهليّة وتداعيات اصطفاف المكوّنات المذهبيّة والعرقيّة السوريّة فيها.

لا علاقة لهذا الأمر بأيّ مشترَكات وهميّة بين العلويّين السوريّين وبين “أمّة شيعيّة عابرة للحدود” يجب أن يُصار إلى معالجة مشاكلها وهواجسها.

ماذا عن اليمن؟

الحوثيّون هم حركة قبليّة زيديّة، ظلّوا لقرون طويلة خارج مراتب المؤسّسة الدينيّة في قم. لم يسمع بهم الشيعيّ العاديّ في بيروت، حتّى داخل بيئة “الحزب”، إلى أن قرّر حسن نصرالله في عام 2015 ضمّهم إلى “محوره الكبير”.
إذا كانت الخريطة الطائفيّة لا تزال تحكم الشرق الأوسط، لكان العراق هو آخر مكان يتدفّق إليه رأس المال الخليجيّ السنّيّ

استغرق الأمر سنوات من الدعاية المتواصلة والخُطب والتحريض والاستثمار المادّيّ لتصنيع حدّ أدنى من الإحساس بالتضامن بين الضاحية الجنوبيّة لبيروت، وجبال شمال اليمن. هذا ليس شعوراً تضامنيّاً مجتمعيّاً عضويّاً داخل “الأمّة الشيعيّة الواحدة”، بل أيديولوجية مُصطنَعة، تمّ فرضها من الأعلى، نتيجة حاجات الصراع الإيرانيّ مع السعوديّة والخليج عبر اليمن.

النّهضة الدّينيّة لا تساوي التّعبئة السّياسيّة

يكمن الخلل الفكريّ الأعمق في مقالة ولي نصر وماريا فانتابي في الافتراض الخطير بأنّ تعبيرات “النهضة الدينيّة” تساوي “التعبئة السياسيّة”. ملايين الشيعة الذين يزورون أضرحة النجف وكربلاء كلّ عام يعكسون الهويّة الدينيّة النشطة للشيعة، لكنّهم ليسوا امتداداً أوتوماتيكيّاً لخيار تأييد حروب “الحزب” الخارجيّة أو تعبير عن رغبة أبديّة في الخضوع لهيمنة إيران على حساب الولاء لدولهم.

في الواقع، إنّ القصّة الأكثر أهميّة في التشيّع العربيّ المعاصر هي الانقسام المتزايد بين النجف، حيث يسيطر تقليد الحوزة الصامتة المرتبطة بآية الله العظمى علي السيستاني، وقُمْ، حيث مركز الإمبرياليّة الثيوقراطيّة – السياسيّة بقيادة آية الله علي خامنئي.

أوضح السيستاني، من خلال صمته الاستراتيجيّ وتدخّلاته المتقطّعة والمدروسة، أنّ حكم الميليشيات غير شرعيّ وأنّ النفوذ الشيعيّ يجب أن يُمارَس عبر المجال السياسيّ الوطنيّ، وليس بحدّ السلاح.

عندما أصدر فتواه عام 2014 ضدّ داعش، كان القصد تعبئة طارئة تحت قيادة الدولة. غير أنّ الفصائل الموالية لإيران اختطفتها لترسيخ السلاح المذهبيّ وجعله كياناً موازياً لمكوّنات الدولة، ثمّ تحويله ليصير قلب الدولة بشكل أو بآخر.

لا نعرف من سيرث عباءة السيستاني. بيد أنّ الصراع الهادئ جدّاً والخطير جدّاً بين النجف وقُمْ حول هذه الخلافة، وعلى روح التشيّع، هو بحدّ ذاته دحض لفكرة “الأمّة الشيعيّة الموحّدة” التي يفترضها الكاتبان وغيرهما.
عادت فكرة “مظلوميّة الأمّة الشيعيّة” العابرة للحدود الوطنيّة لتطلّ برأسها من بوّابة أنّ تفكّك ما يسمّى “محور المقاومة”

المحور بُني على حطام دول

لم يُبنَ “محور المقاومة” على موجة عارمة من تضامن الهويّة الشيعيّة العابرة للحدود. بل بُنيَ على حطام الدول التي دمّرها المشروع الجيوسياسيّ الذي تقوده طهران. ملأ نظام الملالي الفراغات التي تشكّلت عبر إسقاط نظام صدّام حسين في العراق عام 2003، وضعف سوريا وسقوط اليمن بعد عام 2011، والتجويف البطيء للبنان على يد “الحزب” نفسه.

لم توقظ إيران عملاقاً مذهبيّاً متّسقاً، بل صنعت مخلوقاً هجيناً من بيئات هنا وهناك وتدبّرت له هويّة واحدة، بدأت بالتفكّك سريعاً حين ضعُف حضور إيران في هذه الفراغات وبين تلك الشقوق. لذلك ليس صدفة أنّ المشروع الإيرانيّ يعتمد اعتماداً مباشراً على إدامة إنهاك الحكومات والإمعان في تفكيك العقود الاجتماعيّة الضعيفة لدولها، درءاً للاختناق الذي يعيشه المشروع الإيرانيّ الآن.

الجماهير والبيئات الشيعيّة لا تستعدّ لإعادة التعبئة اليوم، بقدر ما هي مُنهَكة. لقد رأوا بأمّ العين أنّ ما يقدّمه حكم الميليشيات، لا يتعدّى الخراب الاقتصاديّ، والحروب الأبديّة، والجنازات الموصولة.

في المقابل فإنّ الشرق الأوسط في عام 2025 لا يدور حول محور الثنائيّة السنّيّة-الشيعيّة البالية. القوّة الرئيسيّة الرافعة للسياسة مع هزيمة محور إيران هي قوّة مشاريع البنية التحتيّة العملاقة ورؤية التكامل الاقتصاديّ والنهوض بالخدمات. تتصدّر دول الخليج هذا المنحى من خلال بناء الموانئ، وسكك الحديد ومشاريع الطاقة المتجدّدة والبحث السياسيّ المتنامي في توسعة أطر السلام.

المشروع يُدفن في العراق

إذا كانت الخريطة الطائفيّة لا تزال تحكم الشرق الأوسط، لكان العراق هو آخر مكان يتدفّق إليه رأس المال الخليجيّ السنّيّ. الواقع أنّ العراق الذي كان مسقط رأس أطروحة الهلال الشيعيّ، والعنوان الأبرز لنموذج الوكيل الإيرانيّ، هو المكان الذي يُدفن فيه هذا المشروع.

التزمت المملكة العربيّة السعوديّة بأكثر من 5 مليارات دولار من الاستثمارات العراقيّة. “طريق التنمية” البالغ تكلفته 17 مليار دولار كاستثمار مشترَك بين العراق وتركيا وقطر والإمارات العربيّة المتّحدة لربط موانئ العراق الجنوبيّة عبر بغداد بتركيا وأوروبا.
الحوثيّون هم حركة قبليّة زيديّة، ظلّوا لقرون طويلة خارج مراتب المؤسّسة الدينيّة في قم

كما يتغذّى العراق (ذو الأغلبيّة الشيعيّة) من شبكة كهرباء دول مجلس التعاون الخليجيّ (السنّيّة). ويبني ائتلاف ماليزيّ- إماراتيّ مترو النجف – كربلاء الذي سيخدم 21 مليون زائر شيعيّ للمقامات والأضرحة.

يمتدّ هذا النمط عبر بلاد الشام: الأردن يمدّ العراق بالطاقة ويتفاوض على عبور الطاقة إلى لبنان عبر سوريا، وشركة موانئ دبي العالميّة (DP World) تطوِّر ميناء طرطوس السوريّ، ومجموعة موانئ أبوظبي (AD Ports Group) تشارك مع شركة CMA CGM الفرنسيّة لرفع مستوى محطّة حاويات اللاذقيّة الدوليّة، ممّا يعزّز مكانة اللاذقيّة كمركز الحاويات المهيمن في سوريا للسلع الزراعيّة والصناعيّة.

الستارة تُسدل على ما يسمّى محور المقاومة. ما سيأتي بعد الهزيمة لن يكون ردّ فعل شيعيّاً عنيفاً على مظلوميّة متوهَّمة. الآتي عمل شاقّ وبطيء لإعادة بناء دول وطنيّة ذات سيادة تستجيب لمصالح مواطنيها، لا لأجندة طهران.

arabstoday

GMT 13:07 2025 الخميس ,18 كانون الأول / ديسمبر

الكتاب اليتيم

GMT 13:06 2025 الخميس ,18 كانون الأول / ديسمبر

نظرية أردنية.. أكبر قضية تستغرق 24 ساعة ثم تختفي!

GMT 13:05 2025 الخميس ,18 كانون الأول / ديسمبر

ترمب و«الإخوان»... الداء والدواء

GMT 13:02 2025 الخميس ,18 كانون الأول / ديسمبر

تراخٍ أميركي وتشدد أوروبي لإنهاء الحرب في أوكرانيا!

GMT 13:01 2025 الخميس ,18 كانون الأول / ديسمبر

السودان... ماذا بقي من «ثورة ديسمبر»؟

GMT 13:00 2025 الخميس ,18 كانون الأول / ديسمبر

المرأة الفرعونية... سيدة العالم القديم

GMT 12:58 2025 الخميس ,18 كانون الأول / ديسمبر

العربية مشكلة سياسية

GMT 12:56 2025 الخميس ,18 كانون الأول / ديسمبر

مُكْرَه أخاك في كييف... لا بطل

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خرافة النّكبة الشّيعيّة خرافة النّكبة الشّيعيّة



أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 01:14 2025 الجمعة ,19 كانون الأول / ديسمبر

ملك الأردن يشيد بأداء المنتخب الأردني في كأس العرب
 العرب اليوم - ملك الأردن يشيد بأداء المنتخب الأردني في كأس العرب

GMT 01:34 2025 الجمعة ,19 كانون الأول / ديسمبر

دراسة تكشف أسباب فقدان التحكم في الشهية
 العرب اليوم - دراسة تكشف أسباب فقدان التحكم في الشهية

GMT 09:42 2025 الخميس ,18 كانون الأول / ديسمبر

باسل خياط يعود للدراما المصرية بمسلسل سيكودراما
 العرب اليوم - باسل خياط يعود للدراما المصرية بمسلسل سيكودراما

GMT 18:57 2025 الخميس ,18 كانون الأول / ديسمبر

اختراق حساب نفتالي بينيت على تلغرام وتسريب مراسلات وصور
 العرب اليوم - اختراق حساب نفتالي بينيت على تلغرام وتسريب مراسلات وصور

GMT 09:38 2025 الخميس ,18 كانون الأول / ديسمبر

هند صبري تتعاون مع أحمد حلمي وتعود لدراما رمضان 2026

GMT 19:07 2025 الإثنين ,15 كانون الأول / ديسمبر

الصادرات السعودية إلى سوريا تتجاوز ضعف أرقام العام الماضي

GMT 07:41 2025 الخميس ,18 كانون الأول / ديسمبر

قصف جوي ومدفعي إسرائيلي على أنحاء متفرقة من قطاع غزة

GMT 11:10 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

حزب البعث اللبناني: أهمية ما ليس مهماً

GMT 14:26 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

أورسولا فون دير لاين تؤكد ضرورة تولي أوروبا مسؤولية أمنها

GMT 11:12 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

صورة المسلم بين عائلتين

GMT 11:13 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

محارق
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab