بعد الاشتباك الأخير مع إسرائيل شاع حديث صراع العقارب في طهران. وربما أخطر ما يواجه النظام ليس التهديد الخارجي من إسرائيل أو من الغرب، بل هو التآكل الداخلي على خلفية صراع الأجنحة، وتآكل شرعية النظام...
يمثل النظام الإسرائيلي والإيراني قطبي الخطر على الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. وإذا كان النظام الأول هو نظام استيطاني، طال الصراع معه حتى الساعة، فإن النظام الإيراني هو نظام توسّعي، يشكّل مخاطر ثابتة تجاه الأمن في منطقة الشرق الأوسط.
من يتأمل المشهد السياسي الإيراني بعمق يدرك أن النظام القائم ليس كتلة صلبة متجانسة، بل أقرب إلى حلبة مغلقة، تدور فيها مواجهات دائمة بين "العقارب" أي القوى المتصارعة داخل بيئة الحكم. ورغم أن هذا الصراع أيضاً موجود في الأجنحة الحاكمة الإسرائيلية، فإن الفرق المهمّ هو أن في إسرائيل آلية ما لحلّ المشكلات، أما في إيران فلا توجد هذه الآلية، لذلك لا يمكن التنبّؤ بطريقة حل التناقضات.
رغم ما يظهر في الخارج، فإن السلطة في إيران تبدو متماسكة خلف شعار الثورة الإسلامية، مع داخل إيراني مليء بالتوترات، بين أجنحة الحرس الثوري، ورجال الدين، والتيارات السياسية المحافظة، والتيارات الإصلاحية فضلاً عن الصراع الخفي على الثروة والنفوذ، فضلاً عن انتشار الزبائنية في الإدارة العليا، إلى درجة القول إن أحداً من الكبار لا يضمن كرسيه، وحتى حياته!
النظام يقوم على حرمان الآخرين من الديمومة، ليتربع على قمته المرشد الأعلى، الذي يفترض أنه المرجع الديني والسياسي، وأنه الوحيد الباقي، إلا أن قبضته على السلطة ليست مكتملة؛ فالدراسات التي بين أيدينا تقول إن هناك دوائر غير متداخلة في تسيير الأنظمة الفرعية المشكّلة للدولة، في أغلبها متناقضة، وتبحث عن مصالح أصحاب تلك الدوائر؛ فالحرس الثوري يمثل الذراع الأقوى عسكرياً واقتصادياً، ويسيطر على قطاعات استراتيجية مثل النفط والغاز والاتصالات، وهو في صراع صامت بينه وبين مؤسسات الدولة المدنية، وحتى المؤسسة الدينية التقليدية. فالحرس يرى نفسه الحامي الحقيقي للنظام القائم، وينظر رجال الدين بعين الريبة إلى هذا التضخم لسلطاته، بل يطلق عليه من خصومه أنه هو "نظام الظل"!
في المرحلة الأخيرة، تصاعد الانقسام بين ما يعرف بالمحافظين والإصلاحيين. وعلى الرغم من التضييق المستمر على الإصلاحيين من قبل المحافظين، وكانوا في السابق محاصرين، فإنهم لا يظهرون الكثير من المعارضة للسياسات العامة التي يطبقها النظام بسبب العزل والقمع. بعد الحرب الأخيرة نشطت دعوتهم إلى الانفتاح وتخفيف القبضة الداخلية، فأصبح وجودهم الشعبي يشكّل قلقاً للسلطة. ويبدو أن الصراع أو لعبة شدّ الحبل داخل النظام نفسه قد بدأت.
المشكلة المباشرة التي يواجهها النظام في إيران هي مسألة خلافة المرشد علي خامنئي. الرجل متقدّم في السن، وتتراجع صحته بشكل يجعل المقرّبين قلقون على من يخلفه؛ والذي سيكون بالطبع من الجيل الثاني ذي الشرعية الأقلّ. بعض الأجنحة تدفع بشخصيّات منها في الوصول إلى ذلك المركز ذي الطابع الشرعيّ الوحيد للنظام، فكل مجموعة تحشد قواتها، وبشكل تنافسي للحصول على ذلك المركز ذي الامتيازات الضخمة وقد ينفجر الصراع بمجرد فراغ المكان.
يلعب التحكم بالاقتصاد الإيراني دوراً رئيسياً في إذكاء الصراع الداخلي، فالعقوبات الدولية ضيقت الخناق على النظام، فأصبح توزيع الثروة المحدودة محصوراً في شبكات قليلة مرتبطة بالحرس الثوري، والدوائر المقربة من المرشد. الاحتكار يثير حفيظة بقية الأجنحة، فأصبح عالم الاقتصاد ساحة مواجهة شرسة بين العقارب التي تتقاتل على الموارد القليلة المتاحة، كما يجب ألا نتجاوز قدرة المعارضة الخارجية الإيرانية التي تملك أذرعاً داخلية نشيطة، تقوم بعدد من الأعمال الداخلية بين فترة وأخرى، خاصة على صعيد جمع المعلومات، بل بدأت تنظم لقاءات في الفضاء السيبراني لتبادل وجهات النظر وشرح ما يجري في الداخل، وحشد المؤيدين لمشروعها التغييري.
وسط هذا الصراع، الشعب الإيراني أو معظم الشعب الإيراني، أصبح مثقلاً بالأزمات المعيشية، وارتفاع معدلات البطالة، والتضخم، وشيوع الفساد، وانتشار تعاطي المخدرات. وما الانتفاضات الشعبية المختلفة التي اندلعت في السنوات الأخيرة، إلا دليل صرخة بوجه الطبقة الحاكمة، رغم أن هذه الانتفاضات تقابل بالقمع العنيف، لأن النظام الإيراني يخشى أن تتحول صيحات الغضب الشعبي إلى انفجار شامل.
بعد الاشتباك الأخير مع إسرائيل شاع حديث صراع العقارب في طهران. وربما أخطر ما يواجه النظام ليس التهديد الخارجي من إسرائيل أو من الغرب، بل هو التآكل الداخلي على خلفية صراع الأجنحة، وتآكل شرعية النظام. هذا الأمر يجعل النظام معرضاً لخطورة أكثر مما سبق، لذلك هو حريص على أن يبقى أذرعه السابقة في مختلف البلدان العربية نشطة ومؤثرة، حتى يستطيع تفادي (في رأيه) ما يمكن أن يتم في الداخل الإيراني.
المعارضة الإيرانية لها وجهة نظر وهي عدم تغيير النظام من الخارج، فهو عمل غير مرغوب من جانبها، ولكن المطلوب هو العمل من الداخل، وهو أمر يعرفه النظام حق المعرفة؛ لذلك فإن الاحتمال أن تتوافق بعض القوى المعارضة الإصلاحية في الداخل، مع القوى الخارجية المعارضة، ليشكلا رافعة لتيار شعبي يكون مدخلاً لتغيير النظام، فقد أصبح واضحاً للجميع استعصاء إصلاحه.