تواجه التنظيمات الإخوانيّة تحدّيات من جانب أمن الدول الأجنبية. لكنّها تواجه مطالب من أعضائها السابقين والحاليّين بأن تبادر إلى حلّ نفسها. وهذا ما يحدث في سورية الآن. فالآلاف منهم استقرّوا بالخارج لجيلين. والباقون بالداخل عندهم الآن نظام حاكم وطموحات للاستقرار وتجديد العيش والاهتمام بمصائر الوطن والدولة، والإعراض عن التحزّب. صار التنظيم الإخوانيّ القديم في سورية من الماضي الغابر، ولذلك المطالبات بحلّه صارت تحصيل حاصل.
دعا أحمد موفّق زيدان، مستشار أسامة بن لادن سابقاً، ومستشار الرئيس أحمد الشرع حاليّاً(!)، “الإخوان المسلمين” في سورية إلى حلّ أنفسهم أو تنظيمهم. وزيدان الذي عمل في فضائيّة “الجزيرة”، ثمّ أُرسل إلى أفغانستان مراسلاً، شاع وقتها مثل عديدين في “الجزيرة” أنّه كان قريباً من “الإخوان المسلمين”، ثمّ صار لادنيّاً (نسبة لبن لادن)، ثمّ ما لبث أن “تاب” مثل أنصار “النُصرة” أو “هيئة تحرير الشام”.
يُستبعد بعد هذا التاريخ الحافل بالتحوّلات أن تأتي نصيحته لإخوان سورية الآن من كبد السماء، بل هي تأتي في الغالب من محيط النظام السوري الجديد المعروف تبايُنُهُ مع حركات “الإخوان” من سنواتٍ وسنوات بسبب التوجّهين المختلفين فيما بين “الإخوان” والسلفيّين، ليس في سورية فقط، بل وفي عدّة بلدانٍ عربيّة في المشرق والمغرب.
الإخوان
بعد كلام زيدان هبَّ عديدون لتذكيرنا بأنّ القطَريّ جاسم سلطان، خبير استراتيجي لمؤسّسات حكوميّة وخاصّة، دعا إلى حلّ “إخوان” قطر وأيّده النائب الكويتيّ السابق عبدالله النفيسي مشيراً بذلك إلى “إخوان” الكويت. والمعروف أنّه سبقت ذلك أو لحقته تقارير أمنيّة فرنسية ضدّ “الإخوان”، فإعلان البحث الأميركي في مدى خطورة التنظيم على الأمن، وإلى منعه بالأردن بسبب القيام بتصرّفات غير قانونيّة.
تأسّس تنظيم “الإخوان المسلمون” في سورية على يد الدكتور مصطفى السباعي ورفاقه في الأربعينيّات من القرن العشرين بعد عودتهم من الدراسة في القاهرة حيث تعرّفوا على حسن البنّا وتنظيمه، وكما قالوا حملوا “الدعوة” إلى سورية.
هناك تديّنٌ جديد واسع الانتشار في سائر أنحاء العالم العربي ومنه سورية
نشأت للإخوان أوزان متوسّطة الحجم في المدن السوريّة، وكان لهم تمثيل في البرلمانات القصيرة العمر. وفي زمن الوحدة مع مصر (1958-1961) حاول النظام الناصريّ استيعابهم بعكس تعامله مع “الإخوان” المصريّين. لكن منذ عام 1963 بعد خروج الضبّاط على الانفصاليّين صار تنظيم “الإخوان” محظوراً، وسمح الضبّاط لقادتهم بالخروج من سورية. وقد توزّعوا مثل المصريّين في أقطار الخارج، وأمّا الجيلان الثاني والثالث منهم فقد هاجروا إلى أميركا للدراسة وبقوا هناك.
مياه كثيرة في النّهر
استمرّت التوتّرات في الداخل السوري وكانت هناك تمرّدات فرديّة في المساجد ومن جانب بعض الشيوخ الذين قُتلوا أو فرّوا. بيد أنّ التمرّد الجماعيّ الأوّل جرى عام 1981-1982 في حماة بعد مذبحةٍ طالت تلامذةً ضبّاطاً في الكلّية العسكرية في حمص اتُّهم بها راديكاليون منهم. استمرّ القتال مع الجيش (رفعت الأسد وآخرون) عدّة أشهر في أحياء المدينة القديمة، وقيل إنّه قُتل ما يزيد على ثلاثين ألفاً. وقد شاع وقتها أنّ التمرّد جرى تشجيعه من جانب صدّام حسين، لكنّه خذلهم بعدما استعدّوا وأعلنوا النفير العامّ.
بعد ذلك، وطوال عقدَي سيطرة حافظ الأسد (حتّى سنة 2000) جرت في النهر مياهٌ كثيرة. حصلت وساطات من جانب مشايخ (مثل محمد سعيد رمضان البوطي)، وعادت بعض القيادات التي كان معروفاً أنّها ضدّ الثوران العنيف، بعكس الذين لجؤوا إلى العراق. وقال الشيخ زهير الشاويش وكان أحد قادتهم المقيمين في لبنان وصاحب دار نشر، إنّه ذهب إلى سورية وقابل أمنيّين وسياسيّين، لكنّه تلقّى شروطاً ثقيلةً لم يوافق عليها زملاؤه في الخليج وأوروبا.
نشأت للإخوان أوزان متوسّطة الحجم في المدن السوريّة، وكان لهم تمثيل في البرلمانات القصيرة العمر
في السنوات الأولى لحكم بشّار الأسد ارتفعت الآمال بإمكان تحسين العلاقات مع النظام بسبب ارتفاع وتيرة العلاقات السورية – التركية ووساطة رجب طيب إردوغان. لكنّ بشاراً كان أكثر حسماً من والده. أمّا في الدواخل فقد تراجعت شعبيّة “الإخوان” ليس بسبب الحظر فقط، وشراسة الأجهزة الأمنيّة، بل بسبب ارتفاع أسهُم الصوفيّة في المدن، والجمعيّات التربوية الدينيّة، وارتفاع أسهُم السلفيّين في الأرياف. ثمّ عقد “الإخوان”، وقد صار كلّ قادتهم ومثقّفيهم في الخارج، تحالفات مع يساريّين وليبراليّين وعبد الحليم خدّام… وقد اعتبر “الإخوان” الجدد تلك التحالفات مسيئة.
عندما حصل التمرّد على النظام عام 2011 من جانب المدنيّين بالمدن، ومن جانب السلفيّين في الأرياف، تردّد “الإخوان” في المشاركة، ثمّ تشجّعوا بالتظاهرات الحاشدة في حماة موئلهم القديم، فدخلوا في تحالف المعارضة بالخارج وصاروا جزءاً أساسيّاً فيه، ومن طريق المناطق التي تدخّل فيها الأتراك قدّموا مساعداتٍ غذائيةً وطبّيةً طوال سنوات.
استبعد النظام الجديد في سورية عمليّاً كلّ أطراف المعارضة، ومن ضمنهم “الإخوان”، لكنّه لم يصطدم بهم علناً بسبب الحضور التركيّ الذي ما يزال بشوشاً معهم. وهم من جانبهم أعلنوا الترحيب بنظام الشرع، ثمّ أصدروا بيانات عدّة بدت أكثر انفتاحاً من سياسات النظام، وبخاصّة أنّها تتحدّث عن الدولة المدنية وعن تمثيل كلّ المكوّنات.
ماذا عن الانتخابات؟
ما عدا فترة قصيرة من التوتّر الفكري قبل حدث حماة وبعده، ظلّ “الإخوان” السوريون أقلّ راديكاليّةً (طبعاً في البيانات من الخارج) من “الإخوان” الأردنيّين والمصريّين في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. لكنّهم فقدوا منذ زمن طليعيّتَهم الفكرية والتنظيمية ضمن الحركات الإسلامية. وقد حصلت بينهم انقساماتٌ متعدّدة ليس على الساحة السورية فقط، بل وفي الساحات الأوروبية والأميركية. ولا يمكن التنبّؤ بما إذا كان سيظهر لهم بعض النفوذ في الانتخابات المقبلة، وبخاصّة أنّ فئات معتبرة من أبنائهم الذين لم يهاجروا أو لم يستطيعوا، أعلنوا انضمامهم إلى أنصار أحمد الشرع.
تأسّس تنظيم “الإخوان المسلمون” في سورية على يد الدكتور مصطفى السباعي ورفاقه في الأربعينيّات من القرن العشرين
هكذا يبدو كأنّما صار “إخوان” سورية بالذات جبهة غابرة، وربّما ذلك هو الذي شجّع زيدان على مطالبتهم بحلّ تنظيمهم رسميّاً. منذ زمن لم يتعرّض “إخوان” سورية خارج دولة الأسد للقمع. وعلى عكس التنظيمات اليساريّة، فإنّ القمع هو الذي يجمع الإسلامويّين. لا ينتظر أحدٌ منهم الانتصار للدولة المدنية، ولا للبديل الحضاريّ. تضاءلت القوّة الفكرية، وليست هناك قدرات تنظيمية معتبرة. ولا تستطيع البقاء بالتلبّس بجلد غيرك.
إقرأ أيضاً: لماذا يرفض الشّرعُ “الإخوان”؟
هناك تديّنٌ جديد واسع الانتشار في سائر أنحاء العالم العربي ومنه سورية. أمّا الحزبيّات فقد انقضى عليها الزمان. وعشْ رجباً تَرَ عجباً.