تأملات في الماضي

تأملات في الماضي

تأملات في الماضي

 العرب اليوم -

تأملات في الماضي

بقلم - جميل مطر

غريب أمرى ولعله أمر عادى ومألوف لدى بعض الكتاب. بينما كنت أقرأ للزميلة ليلى الراعى فى الأهرام بتاريخ 3 سبتمبر تأملاتها فى الذكريات وجدت نفسى مدفوعا بقوة قاهرة للقيام فورا برحلة أخرى من رحلاتى الممتعة فى مواقع وأحداث سنوات طفولتى ومراهقتى وما بينهما. ما هى هذه القوة القاهرة؟ أهى مجرد الحنين للماضى؟ ولكن لماذا كل هذه الرغبة الدافقة فى إيقاظ سرديات، رغبة تتجدد مع كل فرصة تتاح لنا. أهى ضغط الحاضر ثقيل الظل؟ حاضر نريد الهروب منه ولكن ليس إلى الأمام فالمستقبل بالنسبة للكثيرين ولكبار السن غالبا ما يأخذ صفات المغارة الشهيرة فى كتابات الأولين، يدخلها المغامرون ولا يخرجون. أسلم لنا وأقل جهدا الهروب من هذا الحاضر اللئيم إلى الماضى. مع الماضى نحن أحرار فى اختيار الأجمل والأكثر متعة والأقوى مفعولا. أراه، وأقصد مفعول ممارسة الحنين إلى الماضى، كمفعول المخدر. يدخل إلى عروقنا ومنها إلى قلوبنا دخول البرد والسلام ثم يحملنا فى رحلة نزور فيها أحلى الناس والمواقع التى قضينا فيها ومعهم أسعد أوقاتنا. أذكر من المواقع والأوقات السعيدة مثلا ودائما عشة الفراخ فى سطح بيتنا الكبير والقديم فى الجمالية.
●●●
أشكرك يا ليلى فقد أثرت بتأملاتك شجونا. كان قد هيمن على تفكيرى الظن بأن الكتابة للناس عن ماض يخصنى وحدى أمر يجب أن يخصنى وحدى فلا أطلع عليه الناس. تمردت مرارا على هذا الظن فلا يمر وقت أخاله طال إلا وعدت أتأمل فى الماضى أمامهم وفى حضورهم. تدفعنى للتمرد على هذا الظن عوامل كثيرة ليس أقلها شأنا ثقتى الكاملة فى حقيقة أن داخل عقل كل فرد من هؤلاء الناس بذرة تمرد وفى قلب كل منهم نقص عاطفى ولدى كل منهم رغبة لن يشبعها الحاضر، إنما يشبعها ويفيض التأملات فى الماضى، ففى هذا الماضى توفرت كل عناصر وحاجات إشباعها.
الصدر الحنون متوفر هناك. أقصد فى بحر التأملات. متوفرة أيضا رحلة الفجر فوق عربة كارو يجرها حمار. تحمل صندوقا من خشب مشغول لا ينزل من الصندرة إلا كل عيد. داخل هذا الصندوق وكنت شاهدا مهذبا خلال حشوه بأنواع شتى من المخبوزات والبلح الإبريمى والجوافة إن كان موسمها يتناسب وهذا العيد وفواكه أخرى. المخبوزات فى الصندوق أشكال وأنواع لم أرها فى مكان ووقت آخر بقية العام منها فطير القرافة المعجون بالسمن البلدى والشليك أو الشريك وربما لو بحثنا فى أوراق الحملة الفرنسية لعثرنا على أصله واكتشفنا أن له صلة بالكرواسان والباجيت فخر خبازى فرنسا عبر التاريخ. تجلس فوق الصندوق أصغر المشتغلات بالخدمة ومن أهم مهامها فى هذه الرحلة تأمين هدوئى وكبح شقاوتى وفرض التزامى مكانى فوق الصندوق فى وسط العربة وأبعد ما يمكن عن العربجى وحماره. حول الصندوق وحولى تتكدس سيدات وفتيات أغلبهن يشتغلن فى بيت جدتى وبيوت بناتها، أمى وخالاتى، بعضهن لا أراه إلا فى وقفة كل عيد وفوق هذه العربة. منهن من اشتغلت صغيرة فى العائلة قبل أن تحيل نفسها للتقاعد فى الأوقات العادية وتعود للظهور فقط فى المواسم وبخاصة فى الأعياد.
تصعد العربة الشارع، امتداد المعز لدين الله، مارا بسوق الزيتون والليمون قبل أن تعبر باب النصر إلى خارج مدينة القاهرة. نساء العربة ينشدن أناشيد شعبية خاصة بهذا اليوم. قضيت وقتا حقيقيا أبحث عن الأحياء منهن للاستدلال عن كلمات ولحن هذه الأغنيات. لم أجد. كلمات فيها فرح اللقاء المنتظر مع أهلنا فى القبور وحزن على غيابهم، كلاهما معا فى أنشودة واحدة بلحنين منفصلين ولكن منسجمين. عند الوصول إلى بوابة المقبرة أنزل من العربة محمولا من حضن إلى آخر. آخرها عند فسحة الاستقبال تجلس أكبر السيدات سنا لتتولى من هناك مسئوليتين، مسئولية الإشراف على إنزال الصندوق وإدخاله إلى غرفة استقبال داخلية ومسئولية تأمينى إلى حين وصول جدتى وبناتها وجيش الأحفاد من صبيان وبنات.
أذكر أننى كنت أنتظر بشغف عودة الرجال من صلاة العيد بعد شروق الشمس. يعودون ومعهم صوانى الحلوى متنوعة الأشكال والأنواع. يتناولون فى البيت إفطارا سريعا ويطمئنون إلى أن نساء البيت سبقن إلى «القرافة» وعادت عربات الحنطور لتنقل سادة البيت. هنا فى القرافة انتهى العمل الجاد فى إعداد وتنظيف غرف الاستقبال والحديقة استعدادا لاستقبال الضيوف. ما أن يصل أطفال العائلة ومراهقوها إلا وتدب الحركة فى الساحة القريبة. تشتغل المراجيح والألعاب الأخرى ويصل سكان، أو ضيوف، المقابر الكائنة على جانبى الشارع الطويل الممتد إلى قلب الصحراء المزدانة بأشجار وخضرة متنوعة. بحلول صلاة الظهر اكتمل الحى فى شكل مدينة عشت أشبهها بمدن الخشب التى كان يشيدها المستوطنون فى الغرب الأمريكى كما ظهرت فى أفلام رعاة البقر، وكانت مشاهدتها إحدى أهم هواياتى فى سن المراهقة.
●●●
اللغز الذى ظل عصيا على الحل هو المتعلق بكوننا، الأستاذة ليلى وأنا، نتذكر بجلاء تام أحداثا وقعت فى وجودنا ونحن دون الرابعة أو الثالثة من العمر. معى يظل اللغز أشد تعقيدا لما أتذكره عن تفاصيل شارع أمير الجيوش الجوانى والرجال بجلاليبهم البيضاء وبائع البليلة والمسجد المواجه للبيت، كل هذا وأكثر أراه وأراقبه من موقعى داخل بروز فى شكل قفص فى مشربية غرفة الاستقبال فى بيت جدتى. أن أكون داخل هذه المشربية لساعات معناه أننى كنت فى عمر لا يتجاوز سنة أو نحو السنة.
هذه الذكريات وغيرها ترتبط بحكم طبيعتها ببشر رحلوا وبأحياء تغيرت ملامحها بتغير صفات المجتمع وتكوينه، ارتبطت أيضا بأمكنة لمجرد وجودها وزخرفتها وما كانت تسره من حكايات وأساطير. بقيت لنا هذه الذكريات تساعدنا، ليلى وأنا وغيرنا، نحكى لكم حكايات ونعيش نحن مع التأملات.

 

arabstoday

GMT 12:01 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

صدقوني إنها «الكاريزما»!

GMT 11:53 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إحياء الآمال المغاربية

GMT 11:50 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

النار في ثياب ترامب

GMT 11:40 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

.. وفاز ممداني

GMT 11:07 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

التاريخ والجغرافيا والمحتوى

GMT 10:59 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

مرة أخرى.. قوة دولية فى غزة !

GMT 10:56 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

حلم المساواة

GMT 10:24 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

عرفان وتقدير

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تأملات في الماضي تأملات في الماضي



نجمات مصريات يجسّدن سحر الجمال الفرعوني في افتتاح المتحف المصري

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:52 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إقبال تاريخي على المتحف الكبير في مصر مع زيارات غير مسبوقة
 العرب اليوم - إقبال تاريخي على المتحف الكبير في مصر مع زيارات غير مسبوقة

GMT 16:15 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمم المتحدة تطلق حملة تطعيم واسعة للأطفال في غزة
 العرب اليوم - الأمم المتحدة تطلق حملة تطعيم واسعة للأطفال في غزة

GMT 10:05 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

ياسمين صبري تعلّق على افتتاح المتحف المصري الكبير
 العرب اليوم - ياسمين صبري تعلّق على افتتاح المتحف المصري الكبير

GMT 10:58 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

مرقص حنا باشا!

GMT 10:01 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

سجن إلهام الفضالة بسبب تسجيل صوتي

GMT 21:03 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمير هاري يبعث رسالة خاصة لأبناء بلده من كاليفورنيا

GMT 04:36 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

وزير إسرائيلي يدعو لمناقشة تعاظم قوة الجيش المصري

GMT 22:11 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

تفاصيل خطة تشكيل القوة الدولية لحفظ الأمن في غزة

GMT 05:00 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل تعلن تسلمها رفات رهينة ونقله إلى معهد الطب الشرعي

GMT 10:13 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

ابتكار جديد يعيد للأسنان التالفة صحتها دون الحاجة إلى جراحة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab