بقلم : دكتور زاهي حواس
بعد مرور أكثر من مائة عام على اكتشاف كنوز الفرعون الذهبي توت عنخ آمون في وادي الملوك بالأقصر، أصبح بالإمكان، وللمرة الأولى، رؤية تلك الكنوز المكتشفة كاملةً في بيت الملك الجديد بالمتحف المصري الكبير. لم تكن المساحة المخصصة لعرض كنوز الملك توت في المتحف المصري القديم بميدان التحرير تسمح سوى بعرض ما يقارب ثلث كنوز الملك! وذلك نظراً لتكدس الآثار في المتحف الذي لا يمتلك سوى ما يقارب 12 ألف متر مربع مساحة للعرض المتحفي، أما في المتحف المصري الكبير فتصل مساحة العرض إلى 81 ألف متر مربع. هذا الفرق الكبير في المساحات التي يوفرها كل متحف هو ما جعل المستحيل ممكناً، وأصبح عرض كنوز توت عنخ آمون في المتحف الكبير واقعاً، بل حديث العالم كله.
لا يمكن إنكار أن كنوز الملك توت أصبحت مؤمنة تماماً ضد مخاطر تغيّرات درجات الحرارة والرطوبة، وهي المشكلة التي ستنتهي قريباً بإذن الله من المتحف القديم بعد أن تتم إعادة تشغيل نظام التهوية ليتحول المتحف مرة أخرى إلى مكان محكم من حيث درجات الحرارة والرطوبة. لكن الأمر الذي لا يعرفه كثير من الناس هو ما تم إجراؤه من عمليات ترميم علمية أثناء فك ونقل وإعادة بناء الكثير من القطع الأثرية الخاصة بالفرعون الذهبي، مثل المقاصير الضخمة التي كانت تغطي تابوت الملك الحجري، والذي لا يزال موجوداً في موضعه داخل المقبرة بوادي الملوك، وكذلك العجلات الحربية للملك والأسرة الجنائزية وغيرها من الكنوز التي لا تقدر بثمن. كان المرمم العبقري ألفريد لوكاس، الذي عمل مع المكتشف الإنجليزي هيوارد كارتر، هو المسؤول عن ترميم كنوز الملك، وقد قام باستخدام كميات كبيرة من الشمع في الترميم، واستخدامه ليكون مادة رابطة يمكن تغييرها بسهولة بالحرارة، وظلت تلك الآثار على حالها لما يقارب المائة عام، وهي معروضة بالمتحف المصري بالتحرير. وعندما تم البدء في نقل كنوز الملك إلى المتحف الكبير جرى وضع خطة علمية لإعادة ترميم الكنوز على يد فريق من المرممين والمرممات المصريين على أعلى مستوى من الكفاءة والتدريب.
ولعل ما أدهشني حقّاً وأنا أتابع عمل المرممين هو كم المعلومات الجديدة التي تعلمناها عن كيفية قيام الفنانين المصريين القدماء بصنع تلك الكنوز والتقنية التي كانوا يتبعونها في التربيط والنحت واللحامات على اختلاف المواد التي صنعت منها تلك الكنوز، سواء الذهب والخشب والحجر، أو غير ذلك من المعادن والأحجار الثمينة.
ونظراً إلى أن ثلثي هذه الكنوز كان مخزناً في مخازن المتحف المصري بالتحرير داخل صناديق وخزائن مغلقة، لم يكن لدينا سوى الأرشيف الذي تركه لنا المكتشف هيوارد كارتر، والمحفوظ حالياً في معهد غريفيث بجامعة أكسفورد بإنجلترا، وحتى هذا الأرشيف لا يغطي كامل الكنوز المكتشفة بالمقبرة! لذلك كانت الدهشة والمفاجأة التي لم نكن نتوقعها هي أن كثيراً من الحلي الخاص بالملك، وكذلك بعض أغراضه الجنائزية التي عثر عليها بالمقبرة لم يتم ترميمها على الإطلاق، بل تركت بالحالة التي تم اكتشافها عليها، ومنها قلائد وصنادل وأحذية وصناديق، وغير ذلك من آثار. وبعد قيام فريق المرممين المصريين بعمله، رأينا كنوزاً لا مثيل لها في جمال الصنعة ورقي الذوق والجمال لم نكن حتى نعلم بوجودها! بل إنني لا أغالي إذا قلت إن هناك قطعاً أثرية للملك توت عنخ آمون لم يرها حتى مكتشف المقبرة نفسه! إن ترميم وعرض كنوز الفرعون الذهبي توت عنخ آمون في المتحف المصري الكبير يمثلان ملحمة من العمل العلمي المتقن والصبر والإنجاز تستحق منا التعريف بها والبناء عليها في المستقبل.