بقلم : يوسف الديني
خروج سوريا من قوائم الإرهاب ينبغي ألا يُفهم على أنه نهاية المطاف أو تتويج لمرحلة، بل بوصفه بداية فرصة تاريخية لإعادة تعريف الذات الوطنية والفكر السياسي في بلدٍ أنهكته الحروب والتناقضات الآيديولوجية. فالخطوة التي أقدمت عليها واشنطن وبدعم من دول الاعتدال، وفي مقدمتها السعودية، لم تكن منحة سياسية بقدر ما كانت اختباراً لقدرة الدولة السورية على التحول من شرعية القوة إلى شرعية الفكرة، ومن إدارة الأزمة إلى إدارة الوعي.
لقد أتى رفع التصنيف متزامناً مع زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى واشنطن، وانضمامه للتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، في لحظة يمكن أن تتحول إلى نقطة انطلاق جديدة، إذا أحسنت دمشق التعامل معها، باتجاه بناء سردية فكرية حديثة تترجم هذا الانفراج السياسي إلى تحولٍ حقيقي في العقل الجمعي.
إن الخطر لا يكمن في الماضي بقدر ما يكمن في الركون إلى وهم أنه قد انتهى، فرفع الاسم من القوائم يتطلب مراجعة فكرية جادة وشجاعة، تتجاوز حدود البراغماتية السياسية إلى تفكيك البنية الآيديولوجية التي غذّت الانقسام والتطرف.
من منظور سوسيولوجي، تعيش سوريا اليوم ما يمكن وصفه بلحظة «ما بعد الأصولية»، لا بمعنى أن هذه المرحلة قد استقرت، بل بمعنى أن شروطها أصبحت ممكنة. فالحقل الرمزي للصراع، كما يسميه بيير بورديو، ما زال فاعلاً في الوعي السوري؛ إذ تتنازع الذاكرة الجماعية خطابات المقاومة والثورة والأمن، ولا تزال اللغة السياسية حبيسة إرثٍ من العنف الرمزي والاصطفاف الهوياتي. لكن خروج الدولة من التصنيف الدولي يفتح المجال لتحرير هذا الحقل من وصايته الآيديولوجية، والبدء في إنتاج شرعية رمزية جديدة، تقوم على الاعتراف المتبادل والمراجعة بدل الإقصاء. إن ما تحتاج إليه دمشق ليس فقط إصلاح المؤسسات أو إعادة الإعمار المادي، بل تأسيس «لغة جديدة» تُعيد تعريف مفاهيم مثل الهوية والعدالة والانتماء، بحيث تصبح هذه المفاهيم أدوات للتوحيد لا للتعبئة. فالتاريخ السوري الحديث أثبت أن الخطر الحقيقي لا يكمن في السلاح، بل في الأفكار التي تمنحه معنى وقداسة.
في المشهد السوري اليوم، يبرز تيارٌ أكثري يسعى إلى اغتنام فرصة رفع التصنيف والانفتاح الدولي، من دون أن يتخلى عن «ذاكرة» تشكّل جزءاً من هويته السياسية والدينية؛ إذ يحاول الموازنة بين الحفاظ على إرث القتال وإعادة تأويله ضمن إطار الدولة الحديثة، بحيث لا يُمحى الماضي، بل يُعاد توظيفه في خدمة الشرعية الجديدة. إلى جانبه، يظهر تيار نقدي أقل حجماً وتأثيراً وأكثر قلقاً، بدأ يراجع التجربة الأصولية في سوريا خلال سنوات الأزمة بوصفها ظاهرة فكرية أكثر منها حدثاً سياسياً، ويرى أن إخفاقها نابع من تحويل المفاهيم الدينية الكبرى إلى أدوات تعبئة آيديولوجية. هذا التيار الذي يقوده مثقفون وفقهاء وفاعلون مدنيون، يطرح بديلاً يقوم على «الإسلام المدني» في مقابل «الإسلام السياسي»، وعلى فكرة المواطنة بوصفها عقداً أخلاقياً لا أداة انقسام. في المقابل، لا تزال بقايا الذاكرة الأصولية تُشكّل قوة رمزية فاعلة، تنظر بعين الريبة إلى التحولات الجارية وتعتبرها مساساً بـ«طهورية» المشروع القديم، مستندة إلى سردية المظلومية وإلى شبكاتها الرقمية في الدفاع عن شرعيتها. هذا التعايش بين المراجعة والتمسك، بين النقد والحذر، يكشف أن الوعي السوري لم يستقر بعد، وأن التحول الفكري ما زال في طور التكوين، لكنه يشكّل في الوقت ذاته ميداناً واعداً لإعادة إنتاج المعنى؛ حيث تعود السياسة لتكون مجالاً للجدل لا للسلاح.
ومع أن رفع التصنيف خطوة مهمة، فإن ما سيمنحها معناها الحقيقي هو ما سيحدث بعدها. فالمعركة المقبلة ليست ضد بقايا التنظيمات المسلحة بل ضد أنماط التفكير التي تغذيها. والاختبار الأكبر أمام دمشق هو بناء سردية وطنية جديدة تتجاوز ثنائية «التطرف مقابل المدنية» التي خنقت المشرق لعقود. فالمراجعة الفكرية لا تعني الإنكار، بل تعني امتلاك الشجاعة لقراءة التجربة الماضية نقدياً، وتحويلها إلى معرفة تحصّن المجتمع ضد تكرارها. إن بناء «رأسمال شرعي جديد»، كما يصفه تشارلز تيلي، يحتاج إلى توافقٍ وطني على أن الدولة لا يمكن أن تستمد قوتها من العنف، بل من وعي الناس بشرعيتها الأخلاقية، ومن قدرتها على تمثيلهم من دون تمييز. هذا الوعي هو الذي سيجعل رفع التصنيف خطوة تأسيسية، لا مجرد مكسبٍ سياسي مؤقت.
وتشير التجارب المقارنة في العصر الحديث إلى أن غياب المراجعة الفكرية بعد النزاعات يُبقي جذور التطرف حية، تتحول مع الوقت إلى أشكالٍ أكثر مرونة وخفاء. لذلك فإن الرهان الحقيقي في سوريا اليوم هو على «تحصين الوعي»، لا على الردع الأمني وحده. فالأمن يبدأ في العقول، حين تتشكل قناعة جماعية بأن التعدد ليس خطراً، وأن النقد الذاتي ليس ضعفاً. ومن هنا تأتي أهمية الاستثمار في الثقافة والتعليم والإعلام كأدواتٍ لإعادة صياغة اللغة العامة، بحيث يُعاد الاعتدال إلى مكانته كقيمة وطنية، لا كخيارٍ سياسي مؤقت. إن دولة تستثمر في المراجعة لا تفقد هيبتها، بل تبني مناعتها الفكرية على أسسٍ أعمق.
ولعل ما يجعل هذه اللحظة استثنائية أن سوريا تقف الآن على حافة التحول من «دولة الصراع» إلى «دولة المعنى»، من إدارة الأزمات إلى إنتاج الوعي. فرفع التصنيف الأميركي منح دمشق نافذة نادرة لإعادة تعريف نفسها، لا كطرفٍ في معركة ضد الإرهاب، بل كدولة قادرة على إنتاج فكرٍ مضادٍ له، يوازن بين الأمن والحرية، بين الدين والعقل، وبين الذاكرة والمستقبل. هذه الفرصة إذا أُحسن استثمارها، يمكن أن تُدشّن مرحلة «ما بعد الإسلاموية» التي تحدّث عنها أوليفييه روا؛ حيث يتحول الدين من أداة حكم إلى إطارٍ أخلاقي للعيش المشترك. عندها فقط يمكن القول إن سوريا بدأت تتحرر، ليس من تصنيفٍ سياسي فحسب، بل من إرثٍ ذهني طويل جعلها ساحة لصراعات الآخرين.
إن ما يُنتظر من دمشق اليوم ليس الاكتفاء بخطاب الانتصار، بل الشروع في مراجعة فكرية جريئة تُعيد ترتيب أولويات الدولة والمجتمع، وتحول تجربة الحرب إلى ذاكرة نقدية بنّاءة. فالتاريخ لا يكتبه المنتصرون بالسلاح، بل الذين يمتلكون الشجاعة لمساءلة ماضيهم وصياغة معنى جديد للحاضر. وسوريا، وقد خرجت رسمياً من قوائم الإرهاب، أمامها الآن فرصة أن تخرج من ظلاله أيضاً؛ بأن تُحوّل الاعتدال إلى مشروع وطني، والمراجعة إلى ثقافة عامة، لتصبح نموذجاً لدولة تتعلم من أزمتها ومِن ورائها كل دول الاعتدال ستمد يدها لها من أجل تحقيق هذا التحول البنيوي.