نستكمل الحديث عن الكشف الأثرى المثير الذى تم الإعلان عنه فى شهر إبريل الماضى فى المملكة الأردنية الهاشمية، والخاص بـ«اكتشاف نقوش فرعونية فى شرق محمية وادى رم جنوب الأردن».
تعود النقوش المكتشفة لعصر الأسرة العشرين الفرعونية، وتحديدًا عصر الملك رمسيس الثالث (١١٨٦- ١١٥٥ قبل الميلاد).
وعلى الرغم من أن هذه النقوش لا تعدو أكثر من أسماء وألقاب الملك رمسيس الثالث، بما فيهم «اسم الميلاد واسم العرش»!، إلا أن لهذا الكشف أهمية تاريخية وأثرية عظيمة.
فبالإضافة إلى أنه يؤكد على وجود نشاط مصرى قديم فى المنطقة التى تم فيها الكشف إبان عصر الملك رمسيس الثالث، فإنه يفتح المجال أمام الأثريين للبحث وكشف نوع هذا النشاط، وهل كان تجاريًا؟
خاصة وأن نقوشًا مشابهة لنقوش وادى رم كان قد تم الكشف عنها من قبل على صخور واحة تيماء بالمملكة العربية السعودية، وهى المنطقة الواقعة على طريق القوافل التجارية القديمة، والتى ظلت مستخدمة خلال العصور التاريخية اللاحقة وإلى وقت قريب.
والاحتمال الثانى هو أن يكون للفراعنة نشاط تعدينى بالمنطقة أو بالقرب منها.
وقد أثبتت الاكتشافات الأثرية بوادى فينان القريب من محمية وادى رم وجود نشاط تعدينى فرعونى بالمنطقة منذ عصر الدولة القديمة (٢٦٨٦- ٢١٨١ قبل الميلاد)، أى قبل عصر رمسيس الثالث بحوالى ألف سنة!
وهناك أيضًا احتمال ثالث، وهو أن تكون النقوش قد سُجلت على صخور وادى رم عن طريق أحد الكتبة المصاحبين لإحدى حملات رمسيس الثالث العسكرية، التى كانت تخرج لاستتباب الأمن فى منطقة الشرق الأدنى القديم، وتأمين طرق التجارة ومناطق التعدين.
إن خروج حملات عسكرية من مصر تجوب منطقة الساحل الفينيقى ومناطق الشمال الشرقى، والتى تضم الآن كل من سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، هو تقليد قديم استحدثه مؤسس الإمبراطورية المصرية القديمة الملك أحمس، محرر مصر من الهكسوس، والذى آمن بأن «أمن الحدود المصرية لا يمكن أن يكتمل بدون تأمين ما وراء تلك الحدود»، خاصة المناطق سابقة الذكر.
وبالفعل، سار خلفاء الملك أحمس على نهجه، فكان الجيش المصرى يخرج من وقت لآخر لتأمين الشمال الشرقى، والفصل بين الدول والإمارات المتصارعة بالشرق الأدنى القديم.
ونعلم أن الملك العظيم تحتمس الثالث (١٤٧٩- ١٤٢٥ قبل الميلاد) أرسل ١٦ حملة عسكرية، لم تخض معظمها حروبًا بالمعنى المفهوم للحرب!، ولكن كانت معظمها لمجرد «ظهور الجيش بمنطقة الشرق الأدنى القديم، واستعراض قوة مصر وقدرتها على إحلال الأمن والسلام».
ولعل ما حدث فى عهد الملك أخناتون أكبر دليل على ذلك.
فلقد كان أخناتون متعصبًا للديانة الأتونية التى حاول فرضها وحدها على البلاد، واعتبر نفسه «رسولًا للإله أتون المجسد فى قرص الشمس»، وبالتالى شغلته أمور الدين الجديد وصراعه مع كهنة آمون عن أمور السياسة، فرفض خروج الجيش المصرى، ربما لخوفه على نفسه وحكمه ومدينته الجديدة من كهنة آمون وسطوتهم.
وعندما أدى عدم خروج الجيش المصرى فى الشرق الأدنى القديم إلى انهيار الأوضاع هناك، ونشأت الصراعات بين الدول والإمارات الصغيرة، وبدأت الأمور تخرج عن السيطرة، حاول ملوك وحكام الشرق القديم إقناع أخناتون بضرورة إرسال الجيش المصرى لإعادة الأمن والسلام بالمنطقة، لكنهم فشلوا فى إقناعه.
وكان أخناتون قد أقسم على أنه لن يترك مدينته الجديدة التى أنشأها فى مصر الوسطى (تل العمارنة).
ومن الطريف أن أحد حكام الشرق الأدنى القديم لم يعدم الحيلة، فكتب رسالة إلى الملكة الأم «تى العظيمة» – أم أخناتون – يستحلفها بأن تقنع ابنها بأن يرسل جيش مصر لإحلال السلام وفض النزاعات بين الدول المتصارعة.
استمرت مصر مسؤولة عن الأمن والسلام فى الشرق الأدنى القديم حتى بداية عصر الانتقال الثالث، والذى عانت مصر خلاله من وجود سلطتين متصارعتين: سلطة الملوك الحكام فى الشمال وعاصمتهم «تانيس»، والسلطة الدينية لكهنة آمون فى الجنوب وعاصمتهم «طيبة» – الأقصر حاليًا.
ترى الوزيرة النشيطة لينا عناب، وزيرة السياحة والآثار فى المملكة الأردنية الهاشمية، ضرورة استغلال الكشف الجديد فى بناء منظومة تعاون بين الأثريين فى الدولتين – مصر والمملكة الأردنية الهاشمية – يتم من خلالها تبادل الخبرات، والقيام معًا بالبحث وتحقيق اكتشافات جديدة، وإبراز العلاقات التاريخية القديمة الممتدة لآلاف السنين.
والحقيقة أنه، كما سبق وشرحنا، كيف أن الأردن – ورغم عدد المناطق الأثرية الكبير المسجلة، وأنها توصف بـ«المتحف المفتوح» – فإن الأردن بحق لا تزال «أرضًا بكرًا» بالنسبة للاكتشافات الأثرية، فلا يزال هناك الكثير أسفل رمال صحرائها وفى وديانها ينتظر البحث والاكتشاف.
وأخيرًا، فإن كل خبر عن اكتشاف أثرى جديد يصب ليس فقط فى مصلحة العلم، ويضيف إلى تاريخنا العظيم، لكنه يصب أيضًا فى مصلحة السياحة، والتى أصبحت اليوم أحد أهم روافد التنمية فى الكثير من البلدان.
ورغم ما نعيشه من أوضاع عالمية صعبة، بل ثقيلة، فإن «فرص مصر والأردن ستظل عظيمة فى تحقيق طفرة سياحية وتعاون مشترك فى مجالات عدة مرتبطة بالتنمية الأثرية والسياحية».