بقلم : إنعام كجه جي
ويأتي من يقول لك إن السجن مدرسة. هل تصدّقه؟ ماذا يمكن لفرد مسلوب الحرية أن يتعلّم في مكان كئيب قاحل مقفل على زمرة من الخارجين على القانون؟ مع هذا بقيت قصص السجون، على مرّ العقود، تُلهم الروائيين والمخرجين وكتّاب المذكرات. هناك، وراء القضبان، نفوس متوهجة ترفض اليأس، لها حكايات تستحق أن تروى. منها تلك التي يقدمها على المسرح سجين عربي سابق في فرنسا.
الممثل المنفرد على المنصة ضخم مثل بطل ملحمي. ذراعاه موشَّمتان وله صوت ينسجم مع كتلته الجسمانية. يخطف انتباهك منذ الجملة الأولى: «كنت صبياً سعيداً بين والدة مُحبّة وخالة حكاءة. كنت مراهقاً كثير المعارك، مجنداً مطيعاً وملاكماً محترفاً. لكنني ذات يوم لكمت أحدهم بقوة مفرطة. كنت سجيناً محكوماً بالحبس لست سنوات. اثنتان منها انفرادياً. كنت أباً محروماً من ابنته. ثم جاء المسرح وغيّر كل شيء. اسمي رضوان راجل وأنا اليوم ممثل».
تترافق المسرحية مع معرض غريب من نوعه بعنوان «كلمات وراء القضبان». ما الحوار الذي يجري وراء الجدران السميكة؟ مصطلحات قانونية. أوامر ونواهٍ. شتائم. صرخات ألم. أغانٍ بمختلف اللغات. كيف يمكن التواصل في مساحة خاضعة لكل أشكال المراقبة؟ أشخاص أميّون في وسط يتطلب ملء استمارات وكتابة معلومات. نظّمت المعرض أستاذة جامعية تدعى لائيليا فيرون، كانت معلمة للغة الفرنسية في السجون، وكتبت أطروحة عن العلاقة بين اللغة والسلطة. لكن هذه قصة أخرى.
موضوعنا عن رضوان، الولد الذي كبر في الضواحي ومضى يتلقّط رزقه مما هو متاح. حارس في متجر. بائع كعك على الشاطئ. مستخدم في مستشفى. ملاكم في الحلبة. وكيل مبيعات في شركة «رينو». عاش ألف حياة قبل أن يتورط في مشاجرة كبيرة قادته إلى الزنزانة. في السجن اكتشف المسرح بفضل المخرج جويل بوميرا، صاحب فرقة فنية تقدم عروضاً للسجناء. لفت الشاب الطويل نظر المخرج فانتظر الإفراج عنه. أخذه ودرّبه ومنحه أدواراً في مسرحياته ليشارك في مهرجان أفينيون. ثم جاء اليوم الذي أعلن فيه السجين السابق أنه ينوي كتابة مسرحيته الخاصة. عنوانها «في ظل عمود الكهرباء». وعمود الكهرباء في ضواحي المهاجرين هو النادي الليلي الذي يجتمع عنده الشباب. تحت ضوئه يولد التمرد وتنطلق كل النزعات.
مسرحية تأخذ المتفرج إلى تلك الدهاليز المعتمة. تحكي له عما يتركه الاحتجاز من بصمة في الروح. العزل وفقدان الشعور بالوقت. صرخات المدمنين وهرولة الحراس. وهناك لحظة النطق بالحكم. حين أصبح الملاكم مجرماً في نظر المجتمع. يحضر السجناء دورات تسمح لبعضهم بالحصول على شهادة في النجارة أو الكهرباء. يقول ساخراً إن بينهم من يتخرج بدكتوراه في الحكمة. يستشهد بأقوال فلاسفة كبار رافعاً الكلفة معهم. كأن بينه وبينهم صداقة وعِشرة. ليس في نص رضوان راجل غضب ولا مرارة. منحته التجربة حياة إضافية. يعترف للمتفرجين بنبرة خفيضة أن الكائن البشري قابل للخطأ. أن السجين ليس وحشاً.