كان شاعرًا اختلف مع كل رفاق مشواره، فاجأ الناس بموهبته ثم تفرد فى شعره ورحل قبل أن يُكمل رحلته.. لم يكن شاعرًا ينتظر الإلهام، ولكنه شاعر يرسم القصيدة .. إنه أمل دنقل، ابن صعيد مصر، جاء إلى القاهرة متحديًا رموزها ومواهبها، واستطاع أن يأخذ مساحة فى أرضها الطيبة، وأن ينافس نجومها وينطلق فى سمائها متحديًا كل طقوس الإبداع وأصواته..
ــــ التقينا مصادفة فى أول المشوار، كنت طالبًا فى جامعة القاهرة أدرس الصحافة وأتدرب فى مجلة روز اليوسف، وشاهدت (أمل) لأول مرة، كان يرتبط بعلاقات صداقة مع عدد من محرريها، وكنا نتحدث كثيرًا عن الشعر ورموزه.. كان يرى أن محمود حسن إسماعيل، ابن النخيلة، أكبر شعراء مصر.. لم يكن من حواريى صلاح عبدالصبور، رغم أنه كان الشاعر الأشهر ويحيط نفسه بنخبة من شباب الشعراء..
ـــــ لم أسمع عن (أمل دنقل) حتى التقينا مع منير عامر، وكان من أشهر أبناء روز اليوسف فى عصرها الذهبي. نزلنا يومًا، (أمل) وأنا، نتسكع فى شوارع المحروسة، قرأ أشعاره وقرأت أنا أيضًا. كانت «زرقاء اليمامة» بداية شهرته. اختفى (أمل)، وعبرت بنا سنوات العمر.. لم يكن موظفًا فى مكان، وكان يتجول بين الصحف، ويحتفظ بعلاقة خاصة مع زملاء غربته: الأبنودي، والضمراني، وعبد الرحيم منصور.. تركت روزاليوسف، وعشنا كارثة النكسة، وظهر (أمل) مرة أخرى، والتحقت بسفينة الأهرام محررًا اقتصاديًا، واختفى (أمل) مرة أخرى.. كان طائرًا يحلق بلا عش، وينام على أى شجرة.. تغيّرت لعبة الحظ معى عندما أنشأت أول صفحة ثقافية يومية فى الصحافة العربية، وعاد أمل دنقل يطل فى أيامى مرة أخرى، ولكن كانت عودة الشعراء..
ـــــ كان (أمل) أحد ضحايا النكسة، وكان اليسار المصرى قد نجح فى ضمه إلى صفوفه، وهنا ظهر (أمل) المعارض الرافض المتمرد، وكان ميلاد البكاء بين يدى «زرقاء اليمامة»، أشهر قصائده، كتبها أمل دنقل بعد نكسة 1967، وصوّر فيها مأساة الأمة العربية وصورها كأنها المرأة التى ترى ما لا يراه الآخرون..
أيتها العرافة المقدسة
جئت إليك مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف فى معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء
عن فمك الياقوت
عن نبوءة العذراء
ـــــــ بدأنا نلتقى فى الأمسيات الشعرية وفى نادى القصة بقصر العيني. أطلق رصاصته «لا تصالح»، ويومها كان ميلاد قصيدتى «حبيبتى لا ترحلي»، مشروعًا للتعاون مع عبدالحليم حافظ، وبدأت مشوارى الذى امتد سنوات مع القصيدة العاطفية...
وإن كانت قصيدة «لا تصالح» أشهر وأقوى قصائده كتبها سنة 1976، كصرخة شعرية ضد التطبيع مع العدو الصهيونى وتحولت إلى أيقونة رفض وموقف سياسي.
ـــــــ كنت أطبع كتبى فى القاهرة، ووجد (أمل) فرصة لنشر كتبه فى بيروت. انطلقت قصائد (أمل) السياسية المعارضة، وعلى الجانب الآخر كانت قصائد الحب «فى عينيك عنواني» و«حبيبتى لا ترحلي». فى هذا الوقت، كان (أمل) يزورنى فى الأهرام كثيرًا، وابتسم له الحظ، وعيّنه يوسف السباعى فى المجلس الأعلى للآداب، رغم أن يوسف السباعى كان لا يتعاطف كثيرًا مع شعر (أمل)، خاصة أن يوسف إدريس كان يحب (أمل) شعرًا وإنسانًا.. كانت قصيدة لا تصالح صرخة ضد التطبيع وكانت قصيدتى «إن هان الوطن يهون العمر» وقبل ذلك كله كانت قصائد درويش تسافر عبر الملايين فى العالم..
ـــــــ كان (أمل) يشعر بالظلم، وأن الحياة لم تنصفه إنسانًا، وكان ينبغى أن يكون فى منصب أو وظيفة مناسبة. يومًا كنا نتناول الغداء معًا فى الأهرام، وقال: «أنت أخذت قرائي». قلت: «أمل، أنا مناضل فى الحب، وأنت اخترت السياسة، وليست بيننا منافسة». وموقعى فى الأهرام كان وظيفة ودراسة وجامعة، وتنقلت بين مسئوليات مختلفة..
كنا أحيانًا نجتمع معًا: أمل، وفاروق شوشة، وأبو سنة، وكانت العلاقة بين أبو سنة وأمل، تشهد أحيانًا مناقشات حادة. وذات يوم التقينا فى كازينو شهير على نيل العجوزة، واشتبك أمل وأبوسنة، ولم نكمل العشاء. كانت هناك حساسيات كثيرة فى العلاقة بين أمل وأبوسنة.. كانت «لا تصالح» تعويذة (أمل) فى قلوب الملايين فى العالم العربي، وكانت من أهم صكوك (أمل) الشعرية، ولم يتجاوزها..
ــــ عندما رحل يوسف السباعى فى جريمة بشعة، كتب فيه قصيدة بديعة من أجمل قصائده كانت مليئة بالشجن فى نبرة تأملية وحزينة..
اصعد الآن للنجوم العوالى
أيها النجم ذو الشعاع المخمس
هم يقولون كيف لم يحرسوه؟
شرف الحرف وحده ديدبان
بعضنا قد يموت اغتيالًا
فاصعد الآن، إننا سوف نبقى
أى مجد لكاتب حين يحرس
شرف الحرف وحده يتقدس
بعضنا فيه قد يجوع، ويحبس
نحرس الحق أن يضيع ويطمس
إنها اليوم زهرة تتهاوى
وغدًا: ألف زهرة سوف تغرس!
ـــــ كان (أمل) متجهمًا طول الوقت، ساخطًا لأنه كان يستحق أشياء بخلت عليه، وكان يشعر دائمًا بالغربة بين الناس، وكانت حياته فى زحام البشر... كان د. لويس عوض يحبه ويعطف عليه، وقد أخلص (أمل) للقضية الفلسطينية موقفًا وشعرًا وتاريخًا.. كنت أعلم أن (أمل) يعيش قصة حب مع الصديقة عبلة الرويني، وكانت من أسرة غنية، وتذكرنى بقصة زواج عزة بلبع من أحمد فؤاد نجم. وفوجئت أن (أمل) تزوج (عبلة)، كانت تزورنى أحيانًا، وكنت أقول لها: «أشفق عليك من شطط أمل».. تحملت عبلة الحياة مع أمل إنسانًا وشعرًا وإحباطًا، عاد (أمل) مرة أخرى ولم أعرف أين اختفى. كثيرًا ما كان ينزل من أى مكان يسكن فيه ولا يرجع.. كان شخصية مركبة فى حياته وأحلامه وعصبيته، كان إنسانًا حاد المزاج، لا يأمن للناس كثيرًا، وكان متناقضًا مع نفسه، ورضى بالقليل، وإن كان قد وصل إلى ملايين القراء الذين أحبوا شعره..
ـــــ فى تقديري، أمل دنقل، كان حالة شعرية جمعت تناقضات الدنيا، كان يرسم القصيدة خطوطًا قبل أن يكتبها أبياتا، ولم يكن ينتظر الإلهام مثل كل الشعراء، ولكنه يجسدها سطورًا قبل أن تصبح شعرًا فى كلمات.. عاش قصة دامية مع المرض اللعين، وكتب مجموعة من أحلى قصائده، وعلمت يومها أن (أمل) يوشك على الرحيل، وذهبت إلى السيدة جيهان السادات، التى أمرت أن تتحمل الدولة نفقات علاجه.. كان (أمل) يسطر آخر روائعه على سرير المرض،.. كتب خلال معاناته الطويلة ديوان «الغرفة (8)» وكانت رقم غرفته بالمستشفى، وهى من أصدق ما كتب (أمل) عن ألمه الإنسانى وتجربته مع الموت الوشيك..
فى غرف العمليات
كان نقاب الأطباء أبيض
لون المعاطف
لكنه ــ حين طُبقت الأغطية ــ
كان رماديا
يشبه لون الضمادات
هل كنتُ وحدى إذن
أتمدد فوق سرير الشفاء
بدون توقيع ميثاقه الأبيض؟
ـــــ ولم يكن غريبًا أن يكون رحيله مثل مشواره كان قصيرًا فى العمر، شديد الثراء فى القيمة، متنوعًا إلى أبعد المسافات عمقًا وتفردًا.
كنت فى رحلة طويلة إلى أمريكا عندما جاءنى خبر رحيله.. يومها جلست أسترجع شريطًا من الذكريات بيننا.. كان أمل صوتًا شعريًا متفردًا وحادًا، ولم يضعف أمام أحلامه ومعاناته ومرضه، وإن عاشها فى قلوب محبيه إبداعا جميلا..
رحل أمل دنقل ولم يكتب آخر قصائده، واشترك فى رحلة الغياب مع الشابى والهمشرى وشيلى وبايرون وبودلير والشرنوبي، وكلها نجوم تألقت فى سماء الشعر ورحلت قبل أن تُكمل القصيدة، وكل واحد منهم ترك مكانه خاليًا.
*****
..ويبقى الشعر
عَادَتْ أَيَّامُكِ فِى خَجَلٍ
تَتَسلل فى اللَّيل وتبكى
خَلفَ الجُدرانْ
الطفلُ العائدُ أعرِفُه
يندفع.. ويمسك فى صَدْرِي
يشعلُ فِى قَلْبِى النِّيرانْ
هدأتْ أيامُكِ مِنْ زمنِ
ونسيتُكِ يومًا لَا أَدْرِى
طَاوَعَنِى قَلْبِي.. فِى النَّسْيانْ
عِطْرُكِ.. مَا زَالَ عَلَى وَجْهِي
قَدْ عِشتُ زَمَانًا أَذكُرُه
وقَضَيْتُ زمانَا أَنكرُه
والليلةُ يأتِى يحملنِي
يجتاحُ حصُوِني.. كالبُركانْ
اشْتَقْتُكِ لحظهْ
عطرُكِ قد عادَ يحاصِرُني
أهَربُ.. والعِطرُ يطارِدُني
وأعودُ إليِه أطاردُهُ
يهربُ فى صَمْتِ الطرقاتْ
أقترب إليه.. أعانقُه
امرأةُ غيركِ تَحْمِلُهُ
يُصْبِحُ كَرَمَادِ الْأَمْوَاتْ
عِطْرُكَ طَارِدَنِى أزمانا
أهرب.. أو يَهْرَبُ..
وكلانا يَجْرى مصْلوبَ الخُطُواتْ
***
اشْتَقْتُكِ لحظهْ
وأنا مِنْ زَمَنِ خَاصَمَنى
نبض الأشوَاقْ
فالنَّبضُ الحائرُ فى قَلْبِى
أصبحَ أحزانًا تحمِلُنى
وتطوفُ سَحَابًا.. فى الآفاقْ
أحْلامِى صارَتْ أَشْعَارًا
ودماءً تنزفُ فى أوراقْ
تُنْكِرُنِى حِينًا.. أنكِرُها
وتعودُ دُموعًا فِى الأحداقْ
قَدْ كُنتُ حزينًا.. يوم نَسِيتُكِ
يوم دفنتُكِ فِى الأعماقْ
قد رَحلَ العُمْر .. وأنسانَا
صفحَ العشَّاقْ
لَا أَكَذِبُ إِن قُلْتُ بِأَنِّي
اشْتَقْتُك لحظهْ
بَل أكذب إنْ قلتُ بأني
مَازِلتُ أَحَبُّكِ مثلَ الْأَمْسْ
فاليأس قطار يلقينا.. لدُروبِ اليأسْ
والليله عدتِ.. ولاَ أدرِى لِمَ جئت الآنْ ؟
أحيانًا نذكُرُ موتَانَا..
وأَنا كفّنتك فِى قَلْبِى .. فِى لَيْلَةِ عُرْسْ
***
والليلة عُدْتِ
طَافَتْ أَيامُكِ فِى خَجِلٍ
تعبثُ فِى القَلْبِ بِلا اسْتئذانْ
لاَ أكذبُ إن قُلْتُ بِأَنِّى
اشْتَقْتُكِ لحظهْ
لكنى لا أعرف قلبي..
هَلْ يَشْتاقُكِ بعدَ الآن ؟!