كنا نتبادل دواوين شعر نزار قبانى ونحن طلابٌ فى جامعة القاهرة مثل قطع الحلوى، عشنا مع أبياتها وأحببنا عليها، وأخفينا أوراق الورد بين ضفتيها.. كنت واحدا من هؤلاء الشباب الذين عاشوا مع كلمات نزار قبانى أجمل أيام شبابنا.. كانت أسعار كتبه غالية علينا، وكان زملاؤنا من الدول العربية يحتفظون بهذه الكتب، وكنت أقف أمام كشك الصحافة أمام باب الجامعة أتصفح ديواناً وأمضى لأننى لا أملك أن أشتريه..
ـــــ كنت قد بدأت الغناء فى المحاضرات وأقرأ قصائدى للدكتور محمد مندور والدكتور عبداللطيف حمزة، حتى إن الدكتور حمزة أقام لى أمسية شعرية فى نادى خريجى الصحافة بشارع قصر النيل.. أعترف بأننى أحببت شعر نزار فى سنواتى الأولى، وكان ديوانه «الرسم بالكلمات» نقطة انبهار لا أخفيها، رغم جرأته الشديدة ورغم أننى حاولت بعد ذلك أن أسبح بعيدا عن شواطئه.
«لم تستطيعى بعد أن تتفهمى أن الرجال جميعهم أطفالُ
إنى أحبك من خلال كآبتىوجها كوجه الله ليس يُطالُ
كلماتنا فى الحب تقتل حبناإن الحروف تموت حين تُقالُ
وكتبت شعرا لا يطاول سحره إلا كلام الله فى التوراة.
تركت الجامعة وتخلصت قليلا من سطوة نزار، وبدأت قصائدى تشق طريقها فى سماء الشعر، وكان نزار فى هذا الوقت الشاعر الأكثر شهرة وبريقا وحضورا.. بدأت مداعبات تتسلل فى الصحافة على استحياء تقارن بين نزار وبيني، ولم ألتفت إليها.. كنت أقدَر الناس على فهم مكانة نزار شعرا وحضورا، وأن نزار كان الشاعر الأشهر قبل أن آتى للحياة.
ــــ مرّت سنوات كثيرة، ولم أفقد انبهارى بنزار قبانى الشاعر، وإن بدت بعض السحب بيننا، كنت شاهدا على بعضها، والبعض الآخر كان قد سبقنى زمنا وأحداثا.. كان نزار قد كتب ملحمته الشهيرة «هوامش على دفتر النكسة»، أدان فيها عبدالناصر، وكان الثمن صفقة تمت من خلال وساطة هيكل لعودة العلاقة مع نزار، وكان مطلب نزار أن تغنى أم كلثوم إحدى قصائده عن فلسطين، وغنت بالفعل: «أصبح عندى الآن بندقية» ولحنها عبدالوهاب، وكان البند الثانى فى الاتفاق شراء أربعة آلاف نسخة من دواوين نزار قبانى.. عادت العلاقات مع نزار، ورحل الزعيم، وكتب فيه نزار قصيدة بديعة: «قتلناك يا آخر الأنبياء».
ــــ لم يتعاطف نزار مع نصر أكتوبر، بل كتب هجاءً قاسيا فى أنور السادات فى قصيدته «مرسوم بإقالة خالد بن الوليد»،.
اشتعل الموقف بين السادات ونزار، وتمت دعوة نزار فى احتفالية طه حسين، وألقى فيها نزار قصيدة رائعة فى عميد الأدب العربى.. جاءت كامب ديفيد، وحدث مؤتمر بغداد والمقاطعة العربية، وانتقلت جامعة الدول العربية إلى تونس.
يومها كان أول خلاف بينى وبين نزار، وكتبت قصيدة عنوانها «المقاتلون بدماء مصر»، قلت فيها.
ينامون فوق صدور الغواني
ويبكون بالشعر عهد الوليدْ
وفى كل يوم يبيعون شعرا
وفى كل يوم مزاد جديدْ
تعالوا نتاجر فى جوع مصر
ونُلقى على الناس حُلو القصيدْ
واهٍ إذا الجُرحُ أضحى رخيصا
تُباع الدماءُ بسعرٍ زهيدْ
ــــ مرّت مياه كثيرة فى نهر النيل، وأصبحت رئيسا للأقسام الثقافية فى الأهرام وجاء نزار إلى القاهرة فى معرض الكتاب.. لم يكن نزار غريبا عليّ، كان بعض سنوات عمرى.. احتفيت به كثيرا، وأقمت أمسية حضرها فى معرض الكتاب.. كان الراحل الكبير الدكتور أحمد هيكل وزيرا للثقافة، وشهدت مصر فى هذا العام كوكبة من الشعراء العرب.. أقمت لهم يومها غداءً فريدا فى الأهرام، كان على رأسه نزار قباني، ود.أحمد هيكل، ومحمود درويش، وسعاد الصباح، والبردوني، ويوسف إدريس، ولويس عوض، وصلاح طاهر، وسلامة أحمد سلامة، وصلاح الدين حافظ، وسمير سرحان، ومحمد جلال، ويوسف فرنسيس.. وطلبت من زميلنا الراحل عمرو عبدالسميع أن يُجرى حوارا مع نزار نُشر على صفحة كاملة فى الأهرام.
ــــ قضينا نزار وأنا أسبوعا كاملا فى القاهرة لم نفترق، ومن يومها ربطت بيننا صداقة امتدت حتى رحيله.. كان الأهرام يخصص لى زيارة ثقافية إلى لندن وباريس كل عام، وكانت أكبر فرصة تجمعنى مع نزار، نتسكع فى شوارع لندن ومطاعمها، أو أزوره فى شقته خلف محلات هارودز، وكنا نفضل أحد المطاعم اللبنانية فى قلب لندن وكنت أقول له كان ينقصنى شيء من جرأتك، وكان ينقصك شيء من حيائى وكان يضحك.. وقد سمعت يوماً ابنته زينب تقول: «أشعر بالخجل من بعض قصائد أبى»، وقد أخذتُ على نفسى عهداً ألا أكتب كلمة تخجل منها ابنتى.
ــــ كان مشوارى مختلفا فى مناطق كثيرة عن مشوار نزار.. إن جسد المرأة كان قضية مهمة فى شعر نزار، وإن عقلها كان الأهم عندى.. كان نزار يرى تحرير المرأة من جسدها، وإن حرية عقلها تسبق كل شيء عندى. وأخذتنى الصحافة كاتبا ومسئولا فى أكبر صحيفة عربية.. واختلفنا أكثر حين سافرت فى آفاق المسرح الشعرى، وكتبت أربع مسرحيات، ثلاث منها أصبحت تاريخا وهي: «الوزير العاشق»، «دماء على ستار الكعبة»، و«الخديوي»، والرابعة لم تر النور بعد..
ــــ قال لى نزار يوما: «أنا أعرف أن وراء إبعادى من مصر السيدة جيهان السادات»، وقلت لها هذه الحكاية فقالت: «أنا أحب شعر نزار جدا، وهو من أفضل الشعراء عندي» وقلت له ما قالت.. تعرض نزار لهجوم عنيف من أحد الزملاء على صفحات الأهرام، وفى اليوم التالى كتبت مدافعاً عن نزار، وكان سعيدا بما كتبت.
ــــ كان نزار قبانى يؤكد دائما أنه ابن الثقافة المصرية فى عصرها الذهبي، فقد عاش فى مصر فى أربعينيات القرن الماضى حين كانت مصر الثقافة تطل فى كل شيء: سلوكا، وترفعا، ودورا.. كانت بدايات نزار فى «طفولة نهد» و«وقالت لى السمراء»، أغانٍ جريئة تأثر فيها بإبراهيم ناجي، وعلى محمود طه، ومدرسة أبوللو، والفن الراقي، والسينما، والمسرح. شهدت مصر بدايات نزار قباني، وإن عاد إليها محلقا بعد ذلك فى صحبة عبدالوهاب، وعبدالحليم، ونجاة، وكانت رحلته مع الغناء من أكبر الفرص التى أتيحت لانتشار قصائده..» أيظن» «وقارئة الفنجان» و«ماذا أقول له».
ــــ عاش نزار الهم العربى فى أقسى مراحله فى محنة فلسطين ونكسة 67، وكان يقول: «لم أجد بلدا عربيا حرا كى أعيش فيه». تنقل بين سوريا ولبنان، وإسبانيا، ومصر، وكانت صدمته فى رحيل توفيق ابنه شابا محنةَ عمر، ثم كانت كارثة بلقيس زوجته، وقد كتب فيهما شعرا بديعا وحزينا ولم يعد أمامه طريق غير أن يحمل حقائبه ويعيش فى لندن، عاصمة الضباب.. بقدر ما غنّى نزار للحب، بقدر ما عانى وتألم لحال أمته، وإن بقى رافضا، ساخطا، محلقا رغم متاعب الرحلة.
ــــ بقيت علاقتى مع نزار تحمل أجمل وأعز الذكريات، فقد رافقنى فى رحلتى شاعرا وصديقا، وجمعت بيننا ذكريات كثيرة.. أحببته إنسانا، وقدّرته شاعرا، وكانت بيننا حكايات كثيرة، وحين رحل نزار، بكيتُه شعرا، وما زال مكانه شاغرا، وما زالت مملكته التى صاغها حبا وإحساسا ومواقف وتاريخا، شاهدة على عصر سطّره بالدم والعُمر وأجمل الكلمات.
◙ ◙ ◙
..ويبقى الشعر
نَهْر مِنَ الحُب بُرْكَانُ مِنَ الغضَبِ
كَيْفَ الْتَقَى الماُء فِى شَطّيْكَ بِالّلهَبِ؟
مُنْذُ امْتَطْيتَ جَوَاَد الشّعْرِ مُنْطَلِقا
نَحْوَ السّحَابِ.. رَأَيْنَا الشّعْر كالشُهّبِ
كَيْفَ الْتَقَى البَحْرُ وَالبُرْكَانُ فِى قَلَم
وكَيْفَ صَارَتْ خُيُوطُ العُشْبِ مِنْ ذَهَبِ
خَمْسُونَ عَاما.. وَأَنتَ النّجْمُ فِى زَمَنٍ
بَيْنَ السُّفوحِ أَضَاعَ الِجدَّ بِاللَّعِبِ
خَمْسُوَن عاما نَثَرْتَ الْحبَّ فِى وَطَنٍ
أَلْقى المحِبّينَ أَشْلاءً بِلاَ سَبَبِ
حَارَبْتَ بالشّعْر كُهَّانًا مُحَنَّطَهً
فْوْقَ الشَّوَاهِدِ تَارِيخُ مِنَ الكَذِبِ
فِى جَنَّةِ الخُلْدِ أَنْتَ الآنَ تَرْقُبُنَا
مَاذَا يَقُولُ الأُلَى مِنْ سَادَةِ الْعَرَبِ؟
مَاذَا يَقُولُ صَلاَحُ الدينِ عَنْ وَطَنٍ
فِى سَكْرَةِ العَجْزِ بَاعَ السَّيْفَ بِالخُطَبِ
القُدْسُ فِى الأَسْرِ تَبْكِى الآنَ فِى ألَمٍ
وَدَمْعُهَا صَرْخَةُ حَيْرَى بِقَلْبِ نَبِى
هَذَا الغَرِيبُ الَّذِى يَغْفُو عَلَى كَفَنٍ
مِنَ الجَلِيِد.. إِمَامُ الشعْرِ.. وَالطَّرب
هَذَا الغَرِيبُ الَّذِى يَمْضِى بِلا صَخَبٍ
كَمْ أَشْعَلَ الْكَوْنَ.. بِالنَّيرَانِ وَالصَّخَبِ
مَنْفَى غَريب.. وَقَلْبُ حَائِر.. وَيَد
مَشْلُولة الحُلْمِ.. فِى سِجْنٍ مِنَ الغَضَبِ
تَبْكِى القُلوبُ الَّتِى أهْدَيْتَهَا زَمَنًا
مِنَ الجَمَالِ.. بِسحْرِ الشّعْر وَالأدَبِ
تَبْكِى الحُرُوفُ الَّتِى سَطَرَتْهَا نَغْمًا
كَانَتْ تَرِفُّ عَلَى عَيْنَيْكَ كَالهُدْبِ
نَسِيمُ لُبْنَانَ..هَلْ تَدْرِى بِمَا حَمَلَتْ
دُمُوعُ بِلْقِيسَ مِن حُزْن ومِن عَتَبَ؟
يَاسْمِينة الحَيِّ صَاحَتْ عِنْدَمَا لَمَحَتْ
مَوَاكِبُ النَّاسَ مِنَ باك.. وَمُنْتَحِبٌ
مَالَت عَلَى الأَرْضِ فِى حُزْنِ وَقْد تَرَكْت
ثِيَابَهَا البِيضَ لِلأنْدَاءِ.. وَالسحبِ
كَانَتْ تُصَلِّى عَلَى جُثْمَانِ عَاشِقِهَا
كَأَنَّهَا طِفْلُة مَاتَتْ بِحضْنِ أبَ
◙ ◙ ◙
قَدْ عُدْتُ لِلشَّامِ.. يَا لِلشَّامِ كَمْ حَمَلَتْ
مَوَاكِبُ النُّورِ مِنَ صَيْدَا..إِلَى حَلَب
يَا دُرّة الشَّام.. يَا أَغْلَى قَلَائِدُهَا
أَبْيَاتُ شَعْركَ تِيجَانٌ مِنَ الذَّهَبُ
إنْ سَاءَلُوا النَّاسَ يَوْمًا عَنْ مَرَاتِبِهِمْ
فَدُولة الشُّعْرِ فَوْقَ التَّاجِ..وَالرُّتَبِ
نَحْنُ السَّلَاطِينُ.. كُلُّ الكَوْنِ دَوْلَتُنَا
وَنَحْنُ بالشّعْرِ فَوْقَ الجاه..وَالنَّسَبُ
نَحْنُ السَّلَاطِينُ.. شَاءَ البَعْضُ أَمْ غَضِبُوا
فَكُلُّ مَا عِنْدَهُمْ كُوخٌ مِنَ الحَطَبُ
لَمْ تَخْشَ فِى الحَقِّ كُهَّانًا بِضَاعَتُهُمْ
سَيْفٌ مَرِيضٌ ..وَتِيجَانٌ مِنَ الخَشَبُ
هذى السِّهَامُ كَصَمْتِ القَبْرِ اسْمَعْهَا
يَخْشَوْنَ بَأْسكَ رَغْمَ المَوْتِ... وَاعَجَبِي
حُسَّادُكَ الآنَ كَالجُرْذَانِ...قَدْ خَرَجُوا
حَتَّى مَعَ المَوْتِ لَمْ تِسْلَمْ مِنَ التَّعَب
◙ ◙ ◙
نَامَتْ جِرَاحُكَ فَوْقَ الرَّمْلِ…وارْتَفَعَتْ
أُنْشَودَةُ الحُب فَوْقَ الهمْ وَالنَّصَبِ
بَعْضُ الخُيُولِ يَرَى فِى المَجْدِ غَايَتهُ
وَالمَجْد بِالمَوْتِ..غَيْرِ المَوْتِ بِالهَرَبِ
فِى قَبْرِكَ أَلان تَشُدوا أَلْفَ لُؤْلُؤَةَ
وَعَيْنَ مَاءٍ.. وَأَسْرَابٍ مِنَ السّحب
فِى قَبْرِكَ الآنَ قَنْدِيلُ.. وَسْوَسْنَهُ
وَنَجْمَةُ سَافَرَتْ فِى رِيشِهَا الذَّهَبِيِ
تَخْبُو وُجُوهٌ الورى إِنْ ضمهم كَفَنُ
وَوَجهك الغَضُّ فِى الأَعْمَاقِ لَم يَغِبْ
تَأْتِى مَعَ الصُّبْحِ يَوْمًا كُلمَا انْطَلَقَتْ
خُيُولُنَا حُرَّة..مِنْ سِجْنهَا العَرَبِي
فَلَا سَلَام لهذى الأَرْضِ إنْ رَكَعَتْ
وَلَا أمان لَنَا..فِى ظِلِّ مُغْتَصِبِ
----------------------
فى رثاء نزار قبانى من قصيدة « وسافر فارس العشق» 2000