محمود درويش وطن فى قلب شاعر

محمود درويش.. وطن فى قلب شاعر

محمود درويش.. وطن فى قلب شاعر

 العرب اليوم -

محمود درويش وطن فى قلب شاعر

بقلم : فاروق جويدة

 لم يكن محمود درويش مجرد شاعر حمل قضية وطن، ولكنه كان وطنًا حمل قصائد شاعر، وأصبح من الصعب أن تفصل الشاعر عن القضية أو تفصل القضية عن الشاعر.. لا نستطيع أن نصف محمود درويش على أنه شاعر عادى، ولا تخضع أشعاره لمقاييس النقد الأدبى، فهناك بعض الشعراء الذين اختارتهم الأقدار ليكونوا رموزا وليسوا مجرد شعراء.

ــــ كانت حياة محمود درويش قصة حب بين شاعر ووطن، عاشها أحلامًا ومعاناة وغربة وتوحدًا، وأصبح من الصعب أن يأتى ذكر قضية فلسطين بدون محمود درويش، رغم أن ساحة النضال الفلسطينى شهدت شعراء آخرين : إبراهيم طوقان، وفدوى طوقان، وسميح القاسم، ومعين بسيسو، وهارون هاشم رشيد، إلا أن محمود درويش بقى الرمز والشعر والقضية.. إن الشيء المؤكد هو أن القضية الفلسطينية منحت درويش بريقًا وتأثيرًا تجاوز كل شعراء فلسطين، فكان الأكثر شهرة وانتشارًا وبريقًا، وكان شعره صرخات تفرد بها، وكانت حياته عبارة عن قصة عشق لوطن مغتصب، وعصابة وحشية، وشعب أدمن الألم والموت والحصار..

ــــ تميّز درويش بجملة شعرية متفردة، فلم يخرج من عباءة أحد، وكانت أغانيه جديدة حرّكت المشاعر وألهبت القلوب، ولا شك فى أن أشعار درويش حملت قضية وطن إلى أجيال متعددة، وكانت صوتًا صادقًا وسط ركام من الأكاذيب التى شوّهت الحقائق وضللت الشعوب..

تنقّل محمود درويش بين منافى الغربة ما بين الأرض المحتلة والقاهرة وبيروت وباريس، وفى مدينة النور قضى سنواته الأخيرة، وكان الأقرب دائمًا إلى الزعيم ياسر عرفات فى كل سنوات اغترابه..

شهدت حياة محمود درويش عواصف كثيرة: فكرًا، وموقفًا، وإبداعًا..

ــــ منذ بداياته، وجد محمود دعمًا من رموز مصرية كبيرة، مثل الناقد الراحل رجاء النقاش، والكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، وكانا يؤمنان بأن الكلمة الحقيقية لا تموت، وأن قضية فلسطين ستظل حاضرة فى الضمير الثقافى العربي.. وقد كتب بهاء يومًا أن محمود درويش لم يكن مجرد شاعر، بل ظاهرة ثقافية لا تتكرر..

وكان للنقاش دور بارز فى تقديم محمود درويش إلى الساحة الثقافية المصرية والعربية، خاصة قبل مجيء درويش إلى مصر فى بداية السبعينيات. من خلال كتاباته ومقالاته، أسهم فى تعريف القراء العرب بشعر درويش وتجربته النضالية.

فى عام 2005، أرسل محمود درويش رسالة «حب واعتراف» إلى رجاء النقاش بمناسبة تكريمه فى القاهرة، قال فيها: «عزيزى رجاء النقاش، كنت وما زلت أخى الذى لم تلده أمي. أخذت بيدى وأدخلتنى إلى قلب القاهرة الإنسانى والثقافى»..

ــــ وحين قررت إسرائيل تدريس بعض من قصائده فى مدارسها، قامت الدنيا ولم تقعد... فشعره كان يقلقهم، وكلماته كانت كأنها رصاص لا يُخطئ.. وكتبت أنا فى الأهرام عن ذلك، وتناولت قرار وزارة التعليم الإسرائيلية تدريس العربية كلغة إلزامية، وتخصيص ألف معلم يهودى لذلك، وكان هذا المشهد متناقضًا حد الألم... أن يُفرض تعليم العربية، ويُدرّس شعر درويش، ويظل الاحتلال جاثمًا..

ـــــ ومنذ أن دوّى صوته فى سماء الشعر العربي، ظل محمود درويش يكتب ما يشبه سيرة فلسطين بلغة شعرية متجددة، تتنقل بين الأرض والسماء، بين الحنين والمنفى، بين الحب والخسارة. لم يكن درويش مجرد شاعر، بل كان ضميرًا حيًا لقضية لم تغب، وصوتًا لجراح لا تندمل. فى هذه الرحلة نطوف بين أبرز دواوينه، حيث تحضر فلسطين، والذات، والكون، فى نسيج شعرى بديع.

فى أول ديوان صدر له بعد خروجه من السجن بعنوان «أوراق الزيتون «، فيه نضج مبكر لتجربته الشعرية :

سجل!.. أنا عربي

ورقم بطاقتى خمسون ألف

وأطفالى ثمانية

وتاسعهم سيأتى بعد صيف

ثم يواصل فيه استحضار فلسطين بوصفها امرأة ووطنًا وجرحًا.. وفى ديوان عاشق من فلسطين الحب هنا ممتزج بالأرض، والغزل بالدم.

عيونك شوكة فى القلب

توخزنى.. وتوجعنى

وأعبدها

وقصيدة «إلى أمي» أصبحت واحدة من أشهر قصائده وأكثرها تداولًا

أحنُّ إلى خبز أمى

وقهوة أمى

ولمسة أمى

فى آخر أعوامه، تجاوز درويش الشعر السياسى إلى فلسفة الحياة والموت، ووضع فلسطين فى قلب الوجود الإنسانى لا كجغرافيا فقط، بل كقدر شعري.. أصبح يتأمل الذات والعدم، الحضور والغياب، بموسيقى شعرية أخّاذة. قصيدة «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي»:

أَنا لستُ لى إنْ لم أَخفْ

من فسيفساء النهايةِ

ماذا تبقّى لكى أتذكّر؟

ماذا تبقّى لأكتب؟

كَأنّى أَحبُّكِ

هذا هو الاعترافُ الأخيرُ

وهذا هو القلبُ يخلعُ قميصَهُ للرحيلْ

ـــــ وحين رحل سميح القاسم، شعرت بأن القضية الفلسطينية خسرت جناحها الآخر.. فقد كان القاسم ودرويش فرسى رهان فى ميدان الشعر الوطني.. خرج درويش إلى المنافي، يحمل قضيته على كتفيه، أما سميح فبقى فى الأرض، يزرع شجرة الزيتون أمام بيته، ويكتب من وجع الأرض.. درويش كان قلبًا يحارب، والقاسم كان يدًا تمسك السلاح، وكلاهما كان شاعر مقاومة، على طريقته.. فى شعر درويش اتساع الأفق، وفى شعر القاسم حرارة الجبهة، واختلاف التجربتين كان نعمة لا نقمة، أثرى القصيدة، وأعطاها تنوعًا لم تعرفه من قبل.. لقد خسرت القضية الفلسطينية أشياء كثيرة، لكن أشد ما خسرته كان هؤلاء الذين حملوها بصدق، فحين مات محمود درويش، ومات سميح القاسم، مات بعض الشعر، وسكت بعض النبض، وسقط أحد أجمل أعلام هذه الأمة.

لكن تبقى الكلمات شاهدة، وتبقى القصيدة حاضرة.

ـــــ عرفته عن قرب، والتقينا فى مناسبات كثيرة.. من أجمل ما أذكره ذلك الغداء الذى نظمته فى «الأهرام»، وكان حدثًا نادرًا لم يتكرر، جمع نزار قباني، ومحمود درويش، والبردوني، وسعاد الصباح، ومن مصر الراحل د.أحمد هيكل، ويوسف إدريس، ولويس عوض، وصلاح طاهر، وسلامة أحمد سلامة، ومحمد جلال، وغيرهم من فرسان الكلمة والفن.. دار الحوار وقتها حول الشعر والسياسة، ومواقف المثقف من قضايا وطنه، وكان درويش فى هذا كله شديد الصدق، وهادئ الحضور، عميق الرؤية.. فى مهرجان جرش، عرضنا مسرحية «الوزير العاشق»، وكان أبو عمار حاضرًا ودعانا فى بيته، واحتفى بنا محمود درويش.. وفى معرض فرانكفورت، جمعتنا جلسات طويلة تحدثنا فيها عن الشعر والمنفى، عن الخسارات التى تصقل الكلمات، وعن السياسة التى تظلم الشعراء.. كنت دائمًا أقول له: السياسة تفرّق، أما الشعر الصادق فيجمع القلوب..

ـــــ رغم أنه اختار باريس مستقرًا أخيرًا، لكنه لم يغادر فلسطين لحظة واحدة فى شعره.. .كان دائم التفاؤل بالعودة، يحملها فى لغته، ويمنحها لجيلٍ لن يرى وطنه إلا من خلال القصيدة.. ومحمود، شاعر لا يغيب.. حتى وإن غاب الجسد..

كان يحنُّ إلى الأرض، إلى الوطن الذى لا ينفصل عن قلبه، مهما كانت المسافات.. كان درويش القصيدة، والقصيدة كانت درويش.. وما دامت فلسطين قائمة، سيظل هو نبض الشعر الفلسطيني، سيظل صوتًا يردد على مر العصور..

ــــ عاش القضية فى دماء أطفالها فى الانتفاضة، وعاشها فى غربتها فى تونس، وعاشها فى أحزانها فى عمّان وبيروت وصبرا وشاتيلا، وعاشها فى أوسلو حلمًا فى وطن آمن وسلام عادل وإن خذله ، فقد عاتبنى يومًا حين قلت فى أحد البرامج التليفزيونية: «أخاف على محمود درويش من عواصف أوسلو»، لأننى لم أصدقها، ولم تتغير قناعاتى حتى الآن.. ورحل درويش ولم يتحقق حلمه.. وفى مأساة غزة يطل علينا صوت محمود درويش وهو يغنى للأرض وللشهداء وللعودة رغم أن الموت سبق كل هذه الأحلام..

 

                               ◙    ◙    ◙

..ويبقى الشعر

 

سَيجىءُ إليْكَ الدَّجَّالـُونَ بأغنيَةٍ

عَنْ فـَجْرِ سَلامْ

السِّـلمُ بضَاعة ُ مُحْتـَال ٍ وبَقـَايَا عَهدِ الأصْنـَامْ

والسِّـلمُ العَاجزُ مقبرة ٌ.. وسُيُوفُ ظلامْ

لا تـَأمَنْ ذئـْبًا يَا وَلـَدى أنْ يَحْرُسَ طفـْلا ً فى الأرْحَامْ

لنْ يُصْبحَ وَكـْرُ السَّفـَّاحِينْ وإنْ شئـْنـَا .. أبْرَاجَ حَمَامْ

لنْ يَنـْبُتَ وَطـَنٌ يَا ولدى فى صَدْر سَجينْ

لنْ يَرْجعَ حَقٌّ فى أنفاس المخْمُورينْ

حَجَرٌ فى كـَفـِّـكَ يَا وَلـَدى سَيْفُ الله

فلا تـَأمَنْ

مَنْ شَربُوا دَمَّ المحْرُومِينْ

مَنْ أكـَلـُوا لحْم المسْجُونينْ

مَنْ باعُوا يَومًا قـُرْطـُبَة َ

مَنْ هَتـَكـُوا عِرْضَ فلسْطيــِنْ

فاقـْطعْ أذنـَابَ الدَّجَّالينْ

واهدمْ أبْراجَ السَّفـَّاحِينْ

لتعيدَ صَلاحَ .. إلى حِطـِّينْ

◙    ◙    ◙

فِى وَطـَنِكَ قبرُكَ يَا وَلـَدى

لا تـَتـْرُكْ أرْضَكَ مَهْمَا كـَانْ

أطـْـلقْ أحْجَارَكَ يَا وَلـَدِى فى كـُلِّ مكـَانْ

ابدَأ بخَطايَا دَاود

واخْتم برؤوس ِ الكـُهَّانْ

لا تتـْرُكْ فى الكـَعْبَةِ صَنـَمًا

ولـْتـَحْرقْ كـُلَّ الأوْثـَانْ

لنْ يُصْبحُ بيتُ أبـِى لهبٍ

فِى يَوْم ٍ دَارَ أبى سُفـْيانْ

لا تـَسْمَعْ صَوْتَ أبـِى جَهْـل ٍ

حَتـَّى لـَوْ قـَرأ الـُقرآنْ

فزمَانـُكَ حَقـًا يَا وَلدى

زَمَنُ الإيمَان .. الإيمَانْ

واجْعَلْ مِنْ حَجرك مئذنة ً

ودُعاءَ مسيح ٍ .. أوْ رُهْبَانْ

واجْعَلْ مِنْ حَجرك مِقـْـصَلة ً

واخْرسْ تعويذة كـُلِّ جَبَانْ

فالزَّمَنُ القادمُ يَا وَلـَدى

زَمنُ الإنـْسَان ِ.. الإنـْسَانْ

arabstoday

GMT 04:30 2025 الجمعة ,16 أيار / مايو

كفى بُكاءً من الزيارة

GMT 04:29 2025 الجمعة ,16 أيار / مايو

لماذا سعت السعودية لرفع العقوبات؟

GMT 04:28 2025 الجمعة ,16 أيار / مايو

قد «أنطوان لحد» كمان وكمان!

GMT 01:44 2025 الجمعة ,16 أيار / مايو

بين دوايت ودونالد

GMT 01:43 2025 الجمعة ,16 أيار / مايو

الدين وأخلاق العمل والخير العام

GMT 01:41 2025 الجمعة ,16 أيار / مايو

القوة الخشنة تشيّع القوة الناعمة

GMT 01:40 2025 الجمعة ,16 أيار / مايو

ليو وأتيلا العصر الحديث

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

محمود درويش وطن فى قلب شاعر محمود درويش وطن فى قلب شاعر



النجمات العرب يتألقن بإطلالات أنيقة توحّدت تحت راية الأسود الكلاسيكي

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 19:13 2025 الخميس ,15 أيار / مايو

قلق إسرائيلي من زيارة ترامب إلى الخليج
 العرب اليوم - قلق إسرائيلي من زيارة ترامب إلى الخليج

GMT 00:39 2025 الثلاثاء ,13 أيار / مايو

الجيش السوداني يسيطر على مناطق جديدة

GMT 09:55 2025 الثلاثاء ,13 أيار / مايو

واشنطن – الرياض... بين الماضي والمستقبل

GMT 00:51 2025 الأربعاء ,14 أيار / مايو

إجراءات أمنية جديدة في مطار بيروت

GMT 00:35 2025 الأربعاء ,14 أيار / مايو

زلزال يضرب سواحل خاليسكو في المكسيك

GMT 06:04 2025 الأربعاء ,14 أيار / مايو

ترمب في الرياض
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab