بقلم: عبد المنعم سعيد
التغيير هو سنة الكون ولم تكن مصر خارجة على هذا القانون، سواء كان ذلك منذ بدء عصر الحداثة المصرية فى عهد الوالى محمد على، أو بعد انتهاء الملكية وقيام ثورة يوليو 1952 أو بعد قيام ثورة يونيو 2013 عندما خرجت مصر من عباءة الإخوان وضباب ثورة يناير 2011. قرنان وربع مما بات معروفا أن مصر الحديثة شهدت فيها تغيير العالم ما بين العصور الاستعمارية وعصور التحرر منها، عصر الحرب الباردة وعصر الانتهاء منها، ومولد «العولمة» والقيادة الأمريكية لها ثم الشك فيها والخروج الأمريكى من الشرق الأوسط. مصر العثمانية أو الملكية أو الجمهورية لم تتوقف عن تفاعلها التاريخى مع محاولة التقدم، والجغرافى مع الإقليم الذى تعيش فيه. وفى كل الأحوال تقلب المزاج المصرى العام ما بين التفاؤل الشديد والتشاؤم المحزن، لكنها رغم ذلك كانت تتقدم إلى الأمام أحيانا بمعدلات سريعة، وأحيانا أخرى يشتد بها البطء ويغلب التردد وتقوم الأيديولوجية التوزيعية بمنع التراكم الرأسمالى الضرورى للتقدم. المرحلة الحالية ليست مختلفة عن كل ما سبق فيما عدا أن الإرادة السياسية أكثر حزما وعزما وحرصا فى استخدام قدرات مصر «الجيو سياسية واستراتيجية»، وأكثر استعدادا لإدارة الثروات المصرية مع وضع «إدارة الفقر» تحت عباءة الحماية الاجتماعية.
أهم شروط المرحلة الراهنة للدفع بمصر إلى مرحلة متقدمة سمعتها من طيب الذكر رجل الأعمال محمد فريد خميس - رحمه الله - عندما كنت عضوا فى مجلس الشورى. كان الرجل الذى جذبنى إلى جواره رئيسا للجنة الصناعة وواضعا لتقرير شامل عن تنمية وتعمير سيناء. وسألته متعجبا، وهو رجل القطاع الخاص، كيف أن دور هذا القطاع جاء فى النقطة الحادية عشرة الأخيرة فى التوصيات العملية الخاصة بترجمة المشروع إلى واقع. وجاءت إجابته من زاوية عملية بحتة، وهو أنه فى منطقة حساسة أمنيا واقتصاديا مثل سيناء لابد أن تدخل الدولة أولا ببناء البنية الأساسية اللازمة لمشروعات القطاع الخاص المختلفة. اكتشفت فى ذلك الوقت أن تقريره عن سيناء كان الحادى عشر بين التقارير، وكان هناك ما يماثلها فى مجلس النواب، فضلا عن المشروعات التى تقوم بها الحكومة و«المجالس القومية المتخصصة». كانت سيناء عزيزة على جميع المصريين، والاحتفال بتحريرها مزدحم بالأغانى وحجج التعمير الضرورية للأمن القومى المصرى. ورغم ذلك فإن الدولة كانت تواجه معضلة فكر إدارة الفقر التى لم تترك فائضا للاستثمارات العامة فى البنية الأساسية اللازمة لمشاركة القطاع الخاص الذى هو الآخر كان يعانى من ضآلة الحيلة والخوف من مستقبل لاتزال ذكريات التأميم والحراسة تخايله.
الآن تغير الموقف فالدولة قامت بالفعل بجهد فائق لبناء بنية أساسية ممتدة فى جميع أنحاء الإقليم المصرى البالغة مساحته مليون كيلومتر مربع، وفوق ذلك قامت بمشروعات قائدة ورائدة لاستيعاب وتشغيل العمالة وحل معضلات الطاقة والمياه والانتقال والاتصال. وجرى ذلك من خلال قدرات الدولة مباشرة أو من خلال التعاون مع شركات القطاع الخاص المصرية القادرة تكنولوجيًا والشركات الأجنبية غير المترددة فى التعاون مع مصر. مشروع الأنفاق الستة أسفل قناة السويس شهد تعاون الدولة مع شركة «أوراسكوم» وشركة «سيمنز» الألمانية الذى فتح أبواب العبور والارتباط بين سيناء والكتلة السكانية المصرية فى الدلتا. القطاع الخاص فى جانبه انقسم إلى نوعين على أساس الفكر والقدرة: الأول كانت لديه الشجاعة الكافية للتعاون مع الدولة فى تنفيذ مشروعاتها الطموحة، وفضلا عن ذلك القيام بمشروعات رائدة على المستويين المحلى والعالمى (مدينة الجونة مثالا). والثانى عاش فجوة من انعدام الثقة والشكوى دون إدراك للمسؤوليات التى على الدولة تحملها فى دفع الوطن كله إلى الأمام وسط ظروف دولية وإقليمية صعبة وخطرة.
أيا ما كانت «الخلطة» القائمة بين العام والخاص فى الدفع بالمسيرة المصرية إلى الأمام فإن فجوة الثقة تضيق، وباتت الرؤية الذائعة هى «أن القطاع الخاص ليس مجرد شريك، بل هو المُحرك الرئيسى لمسيرة النمو الاقتصادى فى مصر، وقد أثبت خلال السنوات الأخيرة قدرته على توليد أكثر من 80٪ من فرص العمل، ويُمثل اليوم نحو 70٪ من الناتج المحلى الإجمالى ليصبح العمود الفقرى للاقتصاد المصرى». وفى جانب آخر أن «الدولة المصرية قامت، خلال السنوات الماضية، بدورٍ حيوى وبنّاء، تمثّل فى تنفيذ استثمارات ضخمة فى البنية التحتية لتهيئة بيئة داعمة ينطلق منها القطاع الخاص بثقة، ويؤسس لدورٍ فعّال يُمكّنه من قيادة قاطرة التنمية فى الفترة المُقبلة». الفصل الأخير من الشراكة جاء وفقا للجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء أن إجمالى عدد المنشآت العاملة فى الاقتصاد بلغ 3.858 مليون منشأة يستحوذ القطاع الخاص المحلى على 72٪ منها. هذا المناخ حقق 49.7٪ ارتفاعا فى تحويلات المصريين العاملين بالخارج خلال الشهور السبعة الأولى من عام 2025 مُسجلة 23.2 مليار دولار مقابل 15.5 مليار دولار خلال ذات الفترة من العام 2024، فيما حقق شهر يوليو وحده 3.8 مليار دولار بمعدل زيادة 26.3٪، وهو أعلى مستوى شهرى تم تسجيله تاريخيًا.