بقلم: عبد المنعم سعيد
فى ٥ يونيو ١٩٦٧ تعرضت مصر لأسوأ العواصف فى تاريخها المعاصر، ونتج عنها أن تعرض الشعب المصرى لأخطر المواقف التى كان عليه فيها أن يربط الأحزمة ويعقد العزم على مواجهة العاصفة بحزم وقرارات حكيمة حتى تتم إزالة آثار العدوان. مضى على ذلك الآن قرابة ٥٨ عامًا ذهبت فيها زعامة تاريخية، وخاضت فيها مصر حربًا للاستنزاف وثانية للتحرير، وعبرت فيها مفاوضات استعادت فيها الأرض، وبعدها جرى اغتيال قائد حكيم. تفاعلات العاصفة الكبرى ظلت قائمة، نجم عنها عزل مصر بخروج الجامعة العربية منها، وتمت المقاطعات الإقليمية والدولية، ولكن لم تبدأ حقبة التسعينيات إلا ومصر تحارب فى الإقليم من أجل تحرير الكويت بجوار جيوش عربية أخرى. مسيرة العواصف لم تتوقف، وربما كان أكثرها قسوة ما جرى فى ٢٥ يناير ٢٠١١ عندما ألمت بالبلاد عاصفة لم تكن جذورها فى مصر وحدها وإنما فى الإقليم العربى كله، ولكن مصر بعد عامين فقط خرجت من العاصفة سليمة معافاة، وبدأت برنامجًا إصلاحيًا واسع النطاق ظل معها حتى الآن، وهى تواجه فى نفس الوقت الحرب ضد الإرهاب والكورونا ونتائج حرب فى أوروبا وأخرى إقليمية فى الشرق الأوسط. خلاصة الكلام أنه بالنسبة لمصر «كم من الطبول دقت على الرؤوس»، حيث «الطبول» عواصف كثيرة وعاتية، ولكن الخبرة المصرية عرفت كيف تخرج منها.
الآن فإن مصر لا تواجه عاصفة واحدة وإنما تواجه مركبًا من العواصف المتداخلة التى كلما بدا لنهايتها نهاية فإنها تسترد عنفوانها مرة أخرى. الحرب الأوكرانية التى دخلت مؤخرًا فى نوبة مفاوضات لم تنجح فى وقف إطلاق النار لمدة ٣٠ يومًا حسب المقترح الأمريكى، وحصلت على نجاح بسيط فى تبادل الأسرى ١٠٠٠ لكل من الجانبين الروسى والأوكرانى، ولكن أوكرانيا التى كانت تستعد على مدى ١٨ شهرًا لهجوم عبقرى بالمسيرات على مطارات فى الداخل الروسى قررت تنفيذ هجومها فى ذلك التوقيت. الإهانة كانت كبيرة لأنها تكررت فى «غزوة كورسك» والهجوم على جسر روسيا- القرم، والآن فى تدمير ٤١ قاذفة قنابل، والتى سبقتها سفن مسيرة نجحت فى تدمير ثلث الأسطول الروسى فى القرم. العاصفة الأوكرانية ولّدت موقفًا شرسًا من الرئيس الروسى فلاديمير بوتين قوامه: أن ما حدث تهديد للمصير الروسى وأمنه القومى. «هذا ليس مجرد استفزاز عسكرى» وإنما إشارة لعدم استعداد كييف للسير فى طريق السلام. «لقد تخطوا كل خط أحمر»، وذلك «سيُواجه بردٍّ لم يره فى تاريخه. لا مزيد من الخطوط الحمراء. لا مزيد من التحذيرات»، «فى الساعات والأيام القادمة ستتخذ القوات المسلحة للاتحاد الروسى إجراءات استثنائية... لإعطاء رد سيظل فى الذاكرة لفترة طويلة».
فى الوقت الذى تثور فيه العاصفة الأوروبية كرة أخرى فإن عاصفة الشرق الأوسط لم تكن توقفت، فالحرب فى غزة اتسعت من قبل إسرائيل، ولم تنجح بعد المحاولات الدولية فى الدفع بالمساعدات الإنسانية، ولايزال الحوثيون يرسلون بالصواريخ إلى ضواحى مطار بن جوريون، وسوريا التى بدأت تفاهمات مع إسرائيل لم تلبث أن وجدت نفسها وسط حرب صواريخ تنطلق من درعا السورية وترد عليها إسرائيل بعمليات انتقامية. يجرى كل ذلك بينما تتعثر المفاوضات الأمريكية- الإيرانية نتيجة الخلاف على تخصيب اليورانيوم، وتتربص إسرائيل بالموقف باحثة عن فرصة سانحة لضرب المواقع النووية فى إيران. الغريب أن كل تلك العواصف المقبلة تجاه مصر لا تبدو كافية، فالحالة الأمنية فى طرابلس الليبية تتدهور مع الوقت، وفشل وقف إطلاق النار يسابق الجهود الدولية الرامية لإجراء انتخابات عامة لم تنجح طوال السنوات الماضية؛ والموقف فى السودان رغم استعادة الخرطوم من قبل الحكومة المركزية لا يُنبئ بوقف التدمير والاغتصاب والاغتراب. والغريب أن الطبيعة لا تبدو مستعدة للغياب أمام العواصف التى يقوم بها البشر، فبعد عاصفة ممطرة على الإسكندرية توالت تنبؤات مرهقة، وصرحت وزيرة البيئة بما يشبه أن مصر فى خطر، وعروس البحر المتوسط ربما تواجه محنة لا تشملها فقط وإنما كذلك الدلتا وشمال مصر أيضًا.
كل ما سبق لا يبعث على القلق، فكما قلنا إنه دقت على الرؤوس طبول كثيرة، ولكن أخطر ما يُفضى إلى القلق والانزعاج هو فقدان الثقة فى النفس الذى ينتشر فى صفوف النخبة الثقافية فى البلاد، والتى لا تستريح لما تراه من غياب مصر على الساحة الإقليمية؛ وما تجده من خيلاء دول أخرى، أو هكذا تتخيل وتتصور. يجرى ذلك ومصر تقوم بالإصلاح الواسع فى الداخل وتقيم مركبًا من القطارات السريعة، وتتلقى من السعودية مشروعًا لقطارات سريعة أخرى تمر بجسر يربط ما بين شرم الشيخ ورأس الشيخ أحمد، وتلعب دورًا كبيرًا فى البحث عن حل لما يجرى فى المنطقة. اربطوا الأحزمة واعقدوا العزم وتعلموا الحكمة، وبعد ذلك فإن مصر سوف تفعل ما فعلته دائمًا طوال سبعة آلاف عام، وهو أن تبقى عظيمة ومرفوعة الرأس.