بقلم : د. وحيد عبدالمجيد
لم يدرس التاريخ، ولم يحصل على شهادة أو درجة علمية فيه، أو فى غيره. ومع ذلك يظل تأريخه لأحداث زمنه مرجعًا ليس لمن يريدون معرفة ما حدث فيه فقط، بل لمن يرغبون فى تعلم كيف تكون الكتابة فى فترة شهدت تحولات عاصفة. وكان رائدًا فى مجال الاهتمام بالأحوال الاجتماعية أو ما صار يُعرف بتاريخ الناس العاديين. إنه الشيخ عبدالرحمن الجبرتي، الذى تحل هذا العام المئوية الثانية لرحيله عام 1825. عاصر الجبرتى آخر فترة فى حكم المماليك، وشهد أحداث الحملة الفرنسية على مصر، ثم العقدين الأول والثانى فى عهد محمد علي. حرص الجبرتى على تدقيق المعلومات التى جمعها، وسعى للحصول على وثائق بقدر ما استطاع، وهذا هو ديدن الكاتب الموضوعى الذى يريد تقديم شهادته وتدوين أخبار عصره اعتمادًا على مصادر ومعلومات يطمئن إلى صحتها. ولا يعنى هذا أنه لم يخطئ هنا أو هناك، أو لم يغلبه الهوى فى هذا الموضع أو ذاك. ولكن يجوز القول إن هذا الهوى وذلك الخطأ كان استثناء من القاعدة، أو قل هو الاستثناء الذى يؤكد القاعدة. وهذا ما نلمسه فى أعماله الغنية التى تركها، وأهمها كتابا «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»، و«مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس». ولعل أكثر ما خالف فيه قاعدة الموضوعية والحياد كان رأيه فى عهد محمد على منذ بدايته. فقد جمح فى نقده لذلك العهد، ولم يستطع مغالبة موقفه التأسيسى الذى قام على أن محمد على اغتصب حكم مصر ممن اعتبرهم أمراءها الشرعيين الذين لم يمنعه رأيه هذا فيهم من نقدهم والتنديد بمظالمهم وكشف فسادهم. ولأن الميل الموضوعى والحرص على التزام الحياد بقدر المستطاع لا يرضى الجميع، فقد انتُقد الجبرتى فى زمنه وبعده. انتقده على سبيل المثال من لم ترق لهم معالجته التى أرادها موضوعيةً للحملة الفرنسية واتهموه بأنه يناصر الغزاة، فى الوقت الذى اعتبره هؤلاء شيخًا متعصبًا ضدهم.
والحال أنهم قليل أولئك للمؤرخون الذين برعوا فى التأريخ دون أن يدرسوا التاريخ، واعتمدوا على مهاراتهم ومواهبهم الخاصة مثل الجبرتى الذى يجوز اعتباره أبا للمؤرخين المصريين.