بقلم : مصطفي الفقي
طالعت على صفحات الأهرام منذ أيام خبرًا عن الاتصال الهاتفى بين رئيس الدولة المصرية عبدالفتاح السيسى ورئيس دولة كوريا الجنوبية بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وسول، وقد عادت بى الذاكرة إلى إحدى أمسيات عملى بمؤسسة الرئاسة إذ أخبرتنى سكرتارية الرئيس أن قنصل عام دولة كوريا الجنوبية يطلب لقائى بشكل عاجل، لأنه يحمل رسالة شفهية من رئيس بلاده إلى الرئيس مبارك، وقال المسئول الكورى إن الوزير الشهير حسب الله الكفراوى هو الذى نصحه بأن يلجأ إلىّ مباشرة لإبلاغ الرئيس مبارك بفحوى تلك الرسالة اختصارًا للإجراءات وكسبًا للوقت، وبالفعل استقبلت الدبلوماسى الكورى فى اليوم التالى، وقد قال لى إنهم يعرضون على القاهرة إقامة أكبر مركز تدريب فى إفريقيا على جزء من صحراء مصر غير بعيد عن العاصمة، يتم فيه تخريج الآلاف من الشباب المصرى سنويًا والمدرب على أحدث تقنيات المهن التى تحتاجها البلاد فى معركة البناء والتنمية، وعدد لى المبعوث الكورى من قائمة لديه أكثر من ثلاثين حرفة تقوم على تجويد الصنعة، وتعطى مصر وكوريا معًا ميزات مادية وسياسية فى القارة الإفريقية، وأنهم يتبرعون بتكاليف إنشاء هذا المركز العالمى للتدريب على الحرف الحديثة، على أن يكون لهم نصيبٌ من عوائده، وأردف المبعوث قائلاً إننا سوف نزيد على ذلك منحة قدرها مائتا مليون دولار لمصر تحت مسمى قرضا لأن الدستور الكورى لا يجيز إعطاء المنح، فلذلك سيكون هذا القرض بسعر فائدة لايزيد على واحد من عشرة بالمائة، فقلت له ولماذا كل هذا العرض المفاجئ؟ فأجابنى هناك مطلب وحيد من مصر، وهى أن ترفع مستوى التمثيل الدبلوماسى بين البلدين من قنصلية فى القاهرة إلى سفارة كاملة، لأننا نعلم أنكم لو فعلتم ذلك فسوف تتبعكم معظم الدول الإفريقية فى ذلك القرار، وأضاف المبعوث الكورى أن دولتى الصين الشعبية والاتحاد السوفيتى فى ذلك الوقت قد أقامتا بالفعل علاقات دبلوماسية كاملة مع كوريا الجنوبية، ولم يعد هناك حرج على مصر من هذه الخطوة المهمة التى نريد تحقيقها، وعندما انتهى المبعوث شكرته ووعدته أن أرد عليه خلال أيام قليلة بموقف الحكومة المصرية من ذلك العرض السخى، والتقيت بالرئيس مبارك بعدها مباشرة، ونقلت له فحوى الرسالة الشفوية ومادار بيننا فاستمع إلىّ الرئيس بهدوء ثم قال (ولكن تبقى علاقتنا بكوريا الشمالية مصدر حرج لنا رغم كل ماذكره ضيف كوريا الجنوبية، فالشعب المصرى لا ينسى أن كوريا الشمالية هى التى أمدته بقطع غيار الطائرات فى حرب 1973، والتى كانت أحد العوامل الحاسمة فى نصر أكتوبر، والشعب المصرى لا ينسى من يقف إلى جانبه) وقال لى الرئيس أبلغ المسئول الكورى بأننا نرحب بإقامة العلاقات الكاملة فى أقرب وقت مناسب بعد التشاور مع أصدقائنا فى كوريا الشمالية، فالسياسة الخارجية المصرية تقوم على الشفافية، ولا تعطى ظهرها لصديق كان معها فى وقت الشدة، وقد تصورت وقتها أن تلك هى واحدة من الفرص الضائعة للسياسة الخارجية المصرية، ولكنى آمنت أيضًا أن النظرة السياسية البعيدة هى التى تترك أثرًا تراكميًا، وتكون فى الغالب أكثر صوابًا من غيرها، وقد تحقق لنا بعد ذلك بسنوات قليلة إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع جمهورية كوريا الجنوبية دون أى خسائر على الجانب الآخر فى علاقاتنا مع دولة كوريا الشمالية، وأتخيل الآن لو أننا مضينا فى المشروع الذى تضمنه الاقتراح الكورى الجنوبى بإنشاء ذلك المركز التدريبى الضخم لكان ذلك امتصاصًا تلقائيًا لحجم البطالة بين الشباب وإرساء لقواعد الإجادة فى الحرف المختلفة واستثمارًا للذكاء المصرى فى خدمة الاقتصاد الوطنى، ودعمًا للعلاقات مع الدول الإفريقية فى الوقت ذاته، ولقد مضت مواكب الحياة لتصبح العلاقات بعد ذلك وثيقة مع كل من سول وبيونج يانج، واحتفظت مصر بالاحترام المتبادل مع الدولتين اللتين قسمتهما الحرب العالمية الثانية، وتركت آثارًا للصراع مازالت باقية فى المنطقة على الحدود مع الصين، وبالقرب من روسيا الاتحادية حتى اليوم، ولكن مصر رأت دائمًا ألا تزج باسمها فى صراعات ضخمة تبدو بعيدة عن الشرق الأوسط، خصوصا أن لدينا من المشكلات والأزمات ما يكفينا. هذه صفحة مطوية أتذكرها من تاريخ العلاقات المصرية الكورية ومازلت أتذكر أيضًا من زيارتى مع الرئيس الراحل مبارك إلى كوريا الشمالية كيف أن الزعيم الكورى الراحل كيم ايل سونج (جد الرئيس الحالي) كان يحكم وفقًا لطقوس نادرة تقوم على عبادة الفرد وفرادة الزعيم الأوحد.