بقلم : مصطفى الفقي
يتساءل الكثيرون لماذا يرفع المصريون فى ثوراتهم القومية وانتفاضاتهم الوطنية صورة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر دون سواه رغم الإسهام الذى شارك به رؤساء آخرون فى إدارة البلاد وقيادة العباد، من أمثال محمد نجيب وأنور السادات وغيرهما، والجواب ببساطة هو أن عبدالناصر قد تمتع بكاريزما من نوع خاص، وارتبط فى الذهن الجمعى للمصريين بأنه النصير الأكبر للفقراء وأنه يقف دائمًا مع محدودى الدخل محاربًا الإقطاع وسيطرة رأس المال وساعيًا إلى النهوض بالطبقات الدنيا من المجتمع، فضلاً عن نصرته للفئات المهمشة ورعايته للفلاحين والعمال.
كما أن دعمه لحركات التحرير الوطنى وتبنيه سياسة الحياد الإيجابى وعدم الانحياز وتأميمه لقناة السويس وبناءه للسد العالى كل ذلك جعل معظم أفكاره ذات طابع وطنى سليم، وإن كانت ثورته لم تحقق المبادئ الست التى نادى بها إلا أنها سعت نحو ذلك فنجحت فى بعضها وأخفقت فى البعض الآخر، كما أن شعارات عبدالناصر القومية ونداءاته العروبية قد وجدت صدى لدى الملايين فى ظل التغول الإسرائيلى وسياسات دولة الاحتلال العنصرى على الأرض العربية والوطن الفلسطينى، ولا يمكن الحكم على الزعامات والقيادات بحدث عابر أو قرار مفاجئ.
كما لا يمكن الحكم على الأشياء بنهاياتها فقط، فقد رحل نابليون مهزومًا ومحبوسًا ولكنه بقى فى التاريخ واحدًا من أكثر الأسماء الأوروبية شهرة على الإطلاق، كذلك فإن محمد على قد رحل فى ظروف صعبة بعد أن حاصرته القوى الأوروبية باتفاقية لندن ١٨٤٠ حتى مات وهو يعانى داء الخرف، بعد أن شهد وفاة ابنه الأكبر إبراهيم باشا على حياة عينه، والأمر كذلك أيضًا بالنسبة للرئيس جمال عبدالناصر الذى ظل صامدًا رغم الهزيمة العسكرية على نحو أدى إلى انهيار أحلامه القومية وإن كان قد رحل كالأسد الجريح مناضلًا لا يتراجع وقائدًا لا يستسلم.
خلاصة القول إن ذاكرة الشعوب تنحاز دائمًا إلى من سارت وراءه الجماهير وسحر الكاريزما التى يتمتع بها الملايين من مواطنيه وأبناء أمته، ومع شحوب الذاكرة ومضى العقود وزحف السنين تبقى تلك الأسماء التى ارتبطت بالسعى نحو الحرية والخلاص من مظاهر الاستعباد، وقد يتساءل البعض كيف تحقق لعبد الناصر ذلك الزخم الضخم من الولاء والانتماء رغم أن عصره افتقد الديمقراطية السليمة وانصرف عن بناء الجيش القوى سعيًا وراء شعارات قومية كان ذلك أوانها والتعبير عنها؟! والإجابة ببساطة أنه كلما زادت المسافة بيننا وبين ذلك الماضى البعيد توارت الأخطاء واختفت المشكلات.
فمن منّا يتذكر بغى بعض الحكام وطغيان البعض الآخر بينما نتذكر لهم اليوم فقط ما كان يثير مشاعرهم ويحرك عواطفهم، ولابد أن أسجل هنا أنه إذا كان عبدالناصر زعيمًا كبيرًا وثائرًا وطنيًا فإن أنور السادات على الجانب الآخر كان رجل دولة من طرازٍ رفيع يعرف طريقه وسط الأسلاك الشائكة مناورًا وطنيًا استطاع أن يتخذ قرارى الحرب والسلام فى بسالة واضحة ورؤية كاملة.