بقلم : مصطفى الفقي
عملت سنوات فى أروقة رئاسة الدولة ودهاليز الحكم، ورأيت عن قرب شخصيات كبيرة من الداخل ومن الخارج، وكيف كان الجميع يتصرفون فى اللحظات الصعبة أو المقابلات الهامة، الرئيس مبارك كان يلتقى بزعيم حزب الوفد السيد فؤاد سراج الدين من حينٍ لآخر للتشاور فى مسألة معينة أو أزمة طارئة، حيث إن حزب الوفد هو أقدم الأحزاب وأكثرها استمرارية منذ ميلاده قبل أكثر من مائة عام.
وكان زعيم حزب الوفد يصطحب معه حفيده الأستاذ فؤاد بدراوى، الذى يحضر الجلسات ويهتم بشؤون جده، وفى إحدى المناسبات كنت حاضرًا بحكم موقعى سكرتيرًا للرئيس للمعلومات، وقد اندمج الطرفان فى الحديث، فقال الرئيس مبارك: (يا فؤاد بيك) سوف ألتقى برؤساء الأحزاب قبل مفاوضات طابا، فقلت أنا بصوت هامس تصورت أنه لن يسمعه أى من الحاضرين: (فؤاد باشا) وكررتها مرتين بصوت هادئ، فابتسم الرئيس الراحل مبارك قائلًا: يا فؤاد باشا، الأمر المؤكد هو أننا نعتبر المعارضة جزءًا من النظام السياسى، تحسب له كما تحسب عليه، وامتد الحوار بين الرئيس وضيفه الكبير.
وأصبح الباشا متمتعًا بلقب الباشوية الرسمى، والذى حاز عليه فى العصر الملكى وليس مجرد عبارة تجميلية بقصد المجاملة على حساب الحقيقة، ولقد ظل الرئيس الأسبق مبارك ينادى السيد فؤاد سراج الدين بلقب «الباشا» بقية أيام حياتهما، وقد كان الأخير وزيرًا للزراعة ثم وزيرًا للداخلية فى العصر الملكى، وسكرتيرًا عامًا لحزب الوفد إلى جانب المجاهد الوطنى مصطفى باشا النحاس، وهذه نوادر تكشف عن معدن السياسة والسياسيين فى فترات من تاريخنا المعاصر، ولقد كان فؤاد باشا يدخن السيجار حتى آخر أيام حياته.
وقد كان يطلبه من الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل عندما تزاملا معًا فى السجن عقب أحداث ١٩٨١ التى انتهت باغتيال رجل الدولة الزعيم أنور السادات، ولقد دعانى الباشا بحكم صلتى العائلية القديمة به إلى عشاء رأس السنة فى منزل شقيقه ياسين بك سراج الدين، وقد احتفى بى كثيرًا بحكم المودة التى ربطتنى به لسنوات طوال، وأتذكر أننى قلت له فى تلك الأمسية وأنا أجلس إلى جانبه: (يا باشا، لماذا لا تتوقف عن تدخين السيجار؟)، فقال لى إنه قد مضى علىَّ أكثر من سبعين عامًا منذ بداية التدخين، وأحوالى الصحية تقريبًا لا تتغير.
ثم جاء العشاء وفيه مواد دسمة والباشا يأكل منها كغيره من الضيوف، وتذكرت يومها أن الرئيس الراحل عبدالناصر قد اعتقله، وأن الرئيس الراحل السادات حبسه مع غيره فى ظروفٍ ضاغطة بعد الثورة والاستيلاء على ممتلكاته من الأراضى والمبانى، ولكنه ظل صامدًا فى مواجهة كافة التيارات، وآمنت وقتها بأن الذين يقولون إن الأعمار تتوقف على قدر البدانة ونوعية الطعام والإسراف فى التدخين بالإضافة إلى الحالة النفسية التى مر بها صاحب الشخصية فى مراحل حياته غير غافلين عن طبيعة الحمض النووى الخاص بصاحبه.
ووجدت أن كل المخاطر التى كانت تقصف بالأعمار قد مر بها فؤاد باشا بلا استثناء تقريبًا، وعاش عمره حتى صافح التسعين بوعى كامل وعقلية متقدة وذكاء حاد مع خبرات بلا حدود فى التعامل مع الحياة والأحياء ومواجهة المواقف والأزمات، بل وأحيا الوفد من الموات، وأنشأ حزب الوفد الجديد استمرارًا لمسيرة سابقيه سعد باشا زغلول ومصطفى النحاس باشا.