بلغة الأرقام، بات من المستبعد عودة محمّد شياع السوداني إلى موقع رئيس الوزراء في العراق. صحيح أن قائمته تقدّمت على القوائم الأخرى بحصولها على 46 مقعدًا من أصل 329، لكن الصحيح أيضًا أنّ لا سيطرة فعلية لدى السوداني على 38 من النواب الذين ينتمون إلى كتلته. هؤلاء النواب الـ38 موزّعون بين فالح الفيّاض، رئيس “هيئة الحشد الشعبي”، وأحمد الأسدي، زعيم كتلة “جند الإمام”، والشيخ حيدر الغريفي، ممثل “فصيل الأوفياء”. يعني ذلك أنّه لا وجود لكتلة متماسكة في يد محمّد شياع السوداني الذي لم يستطع تحقيق ما كان يطمح إليه من خلال الانتخابات التي أشرفت عليها حكومته.
يتوقع أن تكون هناك مرحلة تجاذبات طويلة تسبق تشكيل حكومة عراقية جديدة. ستأخذ المرحلة التي يبدو العراق مقبلًا عليها في الاعتبار احتمال تفكّك كتلة السوداني التي تحمل اسم “قائمة الإعمار والتنمية”. يبدو ذلك واردًا نظرًا إلى أنها تضم شخصيات مثل الفياض والأسدي. ويُعتبر أسلوب الفياض لافتًا، حسب باحث سياسي عراقي؛ إذ اعتاد خوض الانتخابات ضمن قائمة رئيس الوزراء ثم الانشقاق عنها بعد الانتخابات. ليس معروفًا سبب وقوع السوداني في هذا الخطأ، على غرار ما حصل سابقًا مع حيدر العبادي.
وعلى الرغم من أن النواب لا يستطيعون الانتقال رسميًا من كتلة إلى أخرى قبل تشكيل الحكومة، إلا أن ذلك، استنادًا إلى الباحث العراقي، لا يمنع تفاهمات جانبية بين الفائزين من قائمة السوداني وبين “الإطار التنسيقي”، حيث يُعتبر نوري المالكي الشخصية القيادية الأبرز. ليس سرًا أن المالكي وضع نصب عينيه إخراج السوداني من موقع رئيس الوزراء. لن يكون المالكي صاحب الكلمة الأخيرة في تحديد رئيس الوزراء الجديد، لكن صوته سيكون مؤثرًا، على الرغم من صعود نجم قيس الخزعلي الذي حصل على عدد لا بأس به من النواب كونه زعيم “عصائب أهل الحق”، وهو فصيل محسوب كليًا على “الحرس الثوري” الإيراني.
في كل الأحوال، من المرجّح أن يتفق قادة الإطار على مرشح بمواصفات محددة، ثم يُعرض اسمه على الأطراف الأخرى بشكل يكاد يكون شكليًا، لأن السنة والكرد لديهم مطالب واضحة ترتبط أساسًا بمناصب معيّنة يسعون إلى شغلها، وليس بشخص رئيس الوزراء، استنادًا إلى الباحث العراقي ذاته.
من المتوقع أن يتخذ السنّة مسارًا تفاوضيًا يتعلق بآلية التعامل مع “الإطار التنسيقي”، وهو خيار تميل إليه القوى السنية منذ ما قبل الانتخابات، خصوصًا في ضوء تجربة التحالف الثلاثي التي انتهت دون مكاسب، وخروج التيار الصدري (تيار مقتدى الصدر) من المعادلة، وعودة السنة والكرد إلى التحالف مع الشيعة عبر “الإطار التنسيقي” وليس عبر السوداني.
خسر السوداني الانتخابات لأنه لم يحسن قراءة المشهدين العراقي والإقليمي. من هذا المنطلق، يُتوقَّع أن يكون التفاهم السني والكردي النهائي مع “الإطار التنسيقي”، وليس مع رئيس الحكومة الحالي الذي لم يكن يعرف، على عكس سلفه مصطفى الكاظمي، الكثير. لم يكن السوداني يعرف الكثير لا عن العراق نفسه، ولا عن كيفية التعاطي مع القوى الإقليمية العربية والتوازنات القائمة بين هذه القوى من جهة، و”الجمهورية الإسلامية” في إيران من جهة أخرى. وعند الحديث عن التوازنات الإقليمية، تأتي بطبيعة الحال العلاقة المختلفة بين الرياض وطهران، وهي علاقة تطوّرت منذ توقيع الاتفاق السعودي–الإيراني برعاية صينية في العاشر من آذار/مارس 2023.
يبقى أمران لافتان سيميزان المرحلة المقبلة في العراق. يتعلق الأمر الأول باختيار شخصية رئيس الوزراء الجديد، والآخر بمدى انعكاس التغييرات التي تبدو إيران مقبلة عليها على الوضع العراقي.
بالنسبة إلى رئيس الوزراء الجديد، يُستبعد تبلور الأمور قبل بدء مجلس النواب الجديد ولايته في كانون الثاني/يناير من السنة المقبلة. أكثر الأسماء تردّدًا هو حميد الشطري، رئيس جهاز المخابرات العامة، الذي يبدو مقبولًا لدى معظم القوى الشيعية، خصوصًا في ضوء خلفيته الحزبية المتمثلة في قربه من “حزب الدعوة”. يلعب ضد الشطري وجود قوى سياسية عراقية، شيعية وغير شيعية، تعترض على تحوّل رئيس جهاز المخابرات إلى رئيس للحكومة، باعتبار ذلك جزءًا من التقاليد السياسية العراقية المعمول بها. سبق لمصطفى الكاظمي أن كان رئيسًا لجهاز المخابرات قبل تولّيه رئاسة الحكومة.
أمّا الأمر الآخر الذي يُحتمل أن يميّز الوضع العراقي في مرحلة ما بعد الانتخابات، فهو يتمثّل في حجم النفوذ الإيراني في هذا البلد. لا شك أن نتائج الانتخابات العراقية لم تعكس تراجعًا للقوى السياسية أو للميليشيات المذهبية المحسوبة على طهران. لكن ذلك لا يعني أن العراق سيبقى في منأى عن الصراعات الداخلية التي تشهدها “الجمهورية الإسلامية”، حيث يبدو النظام مستعدًا لتقديم تنازلات من أجل التوصل إلى صفقة ما مع الولايات المتحدة، تفاديًا لمواجهة أخرى مع أميركا وإسرائيل كما حدث في حزيران/يونيو الماضي. من الطبيعي فرض شروط أميركية وإسرائيلية معيّنة، من بينها الحدّ من النشاطات الإيرانية خارج حدود “الجمهورية الإسلامية”.
ومن الطبيعي أيضًا أن تعمل القوى العربية في منطقة الخليج على التوصل إلى صفقة ما بين أميركا وإيران التي تمرّ بمرحلة تشبه إلى حدّ كبير سنوات ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. لا مصلحة لأي دولة خليجية في مواجهة عسكرية أميركية أو إسرائيلية مع إيران. لكن السؤال الذي سيبقى قائمًا: هل هناك استعدادات إيرانية لدفع ثمن تفادي المواجهة، بما يعنيه ذلك من انعكاسات على مدى النفوذ الإيراني في العراق وحجمه؟
يوجد ما هو أبعد من نتائج الانتخابات العراقية واستبعاد محمّد شياع السوداني وسقوطه السياسي. هناك مستقبل إيران الذي بات على المحك، ومعه مستقبل النظام السياسي العراقي، نظام ما بعد 2003، الذي يثبت كلّ يوم فشله على كلّ المستويات.