رئيس الوزراء العراقي لم يستطع تمييز نفسه عن سياسات "الجمهورية الإسلامية" في إيران خصوصا أنه لم يخف يوما تمسكه بـ"الحشد الشعبي" معتبرا إياه جزءا لا يتجزأ من المؤسسات الرسمية العراقية.
ليس الموضوع موضوع قمّة عربيّة تعقد في بغداد أو في أي مكان آخر. الموضوع ما الفائدة من القمة العربيّة في عالم تغيّر ومنطقة يعاد رسم خارطتها في ضوء “طوفان الأقصى”، وهو الهجوم الذي شنته “حماس” على مستوطنات إسرائيلية انطلاقا من غزّة. غيّر هذا الهجوم إسرائيل أوّلا. غيّر إيران التي شنت حروبا عدّة على هامش ما حصل في غزّة. خسرت كلّ حروبها. لم يبق لديها سوى العراق حيث تمارس نفوذا كبيرا. تعتبر “الجمهوريّة الإسلامية” العراق ورقتها الأخيرة بعدما خسرت سوريا ومعها “حزب الله” الذي كان أداتها المفضلة في المنطقة. لكن ما قيمة الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، عناصره لبنانيّة، من دون المعبر السوري؟
في ما يخص القمة العربية الأخيرة التي انعقدت في بغداد، ترتدي هذه القمّة أهمّية خاصة في ضوء كشفها الواقعين العربي والعراقي الداخلي من دون مواربة. كشفت أوّلا أن هناك حذرا عربيا حيال الوضع العراقي عموما. لم يحضر القمة سوى رئيسي دولة مهمّين هما الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. لدى مصر أسبابها التي تدعو السيسي إلى حضور القمة، ولدى قطر أسبابها أيضا، خصوصا العلاقة الخاصة التي تربطها بإيران.
بكلام أوضح، لم يستطع رئيس الوزراء العراقي محمّد شياع السوداني تمييز نفسه عن سياسات “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران، خصوصا أنّه لم يخف يوما تمسّكه بـ”الحشد الشعبي” معتبرا إياه جزءا لا يتجزّأ من المؤسسات الرسمية العراقية. ذهب بعيدا في الدفاع عن “الحشد”، علما أنّه ليس سوى تجمع لميليشيات مذهبيّة تابعة في معظمها لـ”الحرس الثوري” الإيراني. زاد في الطين بلّة مجيء إسماعيل قاآني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” إلى بغداد، عشية انعقاد القمة لتأكيد مدى الحرص الإيراني على التحكّم بـ”الساحة العراقيّة”. لقي قاآني في بغداد استقبالا حارا يدلّ على عمق العلاقة بين طهران وبغداد.
◄ الملوك والرؤساء والأمراء العرب لم يسبق لهم أن قاطعوا القمة بالطريقة التي قاطعوا بها قمة بغداد. هذا يعني بكل بساطة وجود خلل ما تسبب به مكان انعقاد القمة
توجد عوامل عدّة أخرى لعبت دورا في التقليل من أهمّية قمة بغداد، التي من سوء حظّها، مجيئها مباشرة بعد انتهاء الجولة الخليجية للرئيس دونالد ترامب. شملت تلك الجولة الرياض والدوحة وأبوظبي. شهدت تلك الجولة التي قام بها الرئيس الأميركي توقيع اتفاقات في غاية الأهمّية مع الدول الثلاث. شملت الاتفاقات صفقة أسلحة ضخمة بين السعودية والولايات المتحدة، إضافة إلى صفقات أخرى، وصفقة قطرية مع شركة “بوينغ” بعشرات المليارات من الدولارات. حرص ترامب في الدوحة على الإشادة بالدور الذي يلعبه أمير قطر في التقريب بين واشنطن وطهران… وعلى العمل على تفادي أيّ صدام بين إيران والولايات المتحدة.
كذلك، تكرّس جولة ترامب دور دولة الإمارات كأحد أهم مراكز الذكاء الاصطناعي في العالم مع ما يعنيه ذلك من دور لهذه الدولة الفتية، التي تمتلك حيويّة كبيرة، في مجال صنع المستقبل بما يتجاوز المنطقة بكثير… وصولا إلى داخل الولايات المتحدة نفسها.
في الجانب السياسي، خطفت جولة ترامب الأضواء بعدما استقبل الرئيس الأميركي في الرياض الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع في حضور الأمير محمّد بن سلمان الذي لعب دورا محوريا في إقناع دونالد ترامب برفع العقوبات عن سوريا وعقد لقاء معه. يشكل هذا الحدث منعطفا على الصعيد الإقليمي وذلك بطيه صفحة عمرها نحو ستين عاما، هي صفحة الحكم العلوي في سوريا، وهو حكم جعل من سوريا جرما يدور في الفلك الإيراني. إضافة إلى ذلك، يكشف استقبال ترامب للشرع الاعتراف الأميركي بالدور التركي في سوريا. كان لافتا أنّ الرئيس رجب طيب أردوغان كان حاضرا، عن طريق الهاتف، في اللقاء الأميركي – السوري الذي رعته السعوديّة.
لم تكن قمة بغداد على تماس حقيقي مع أيّ ملفّ إقليمي ذي شأن. اكتفت في ما يتعلّق بحرب غزّة بلغة خشبية لا علاقة لها بالواقع. صحيح أنّ إسرائيل تعمل على إزالة غزّة من الوجود وإنهاء القضيّة الفلسطينية، لكن الصحيح أيضا أن “حماس” تلعب الدور المطلوب منها كي تستمرّ الحرب على غزّة وأهلها. لم يصدر عن القمّة ما يدعو إلى إطلاق الحركة للرهائن الإسرائيليين، الذين تحتفظ بهم، من أجل قطع الطريق على تبريرات بنيامين نتنياهو لمتابعة الحرب على غزّة. في يوم واحد، يوم انعقاد قمة بغداد، قتلت إسرائيل نحو 150 مواطنا فلسطينيا في غزّة!
بدت قمّة بغداد حدثا هامشيا في عاصمة بلد لا يعرف أن عليه التصالح مع نفسه أوّلا، بدءا بالمكون الكردي العراقي الذي لا يخفي حاليا استياءه الشديد من تصرّفات حكومة محمّد شياع السوداني. يبدو أن على هذه الحكومة أن تختار مسارا مختلفا عن مسار الصدام مع الأكراد… وأن تمارس نقدا ذاتيا في محاولة لفهم لماذا لم يأت رؤساء الدول إلى بغداد؟
من المفيد أيضا التساؤل على الصعيد العربي ما الفائدة من انعقاد القمم العربيّة في غياب نقلة نوعيّة تسمح بتسمية الأشياء بأسمائها. على سبيل المثال وليس الحصر، الاعتراف بأن “حماس” مسؤولة عن حرب غزة التي يستغلّها اليمين الإسرائيلي إلى أبعد حدود. كذلك الاعتراف بأنّ لا دور عربيا في وقف حرب السودان والحؤول دون تفاقم الوضع في ليبيا وإفهام الجزائر أن لا فائدة من حرب الاستنزاف التي تشنها على المغرب بسبب استعادته أقاليمه الصحراوية سلما في العام 1975. هل طبيعي بقاء القمّة طوال نصف قرن في موقف المتفرج في حين يشنّ بلد عربي حربا بالواسطة على بلد عربي، جار له، آخر لم يتسبّب له بأذى في يوم من الأيّام… بل قدّم له كل مساعدة من أجل تمكّنه من تحقيق استقلاله في 1962؟