ليس في استطاعة “الحزب” الخروج من تحت العباءة الإيرانيّة، بغضّ النظر عن كلفة ذلك عليه وعلى لبنان وعلى أبناء الطائفة الشيعيّة، في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبيّة تحديداً. هذا ما أكّده وزير الخارجية الإيراني عبّاس عراقجي الذي وصلت به الوقاحة حدّ القول إنّ خطّة الحكومة اللبنانية الهادفة إلى نزع سلاح “الحزب” “ستفشل”. شدّد على أنّ “الحزب أثبت فعّاليّته في ساحة المعركة”، وأنّه “أعاد تنظيم صفوفه، وقوّاته عادت إلى الميدان“.
يبدو أنّ إيران مصرّة على خوض حروبها خارج أراضيها رافضة أخذ العلم بخسارتها هذه الحروب التي شنّتها على هامش حرب غزّة. لا يزال لبنان بالنسبة إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” “ساحة” على الرغم من اضطرار النظام الإيراني إلى الدفاع عن نفسه داخل “الجمهوريّة الإسلاميّة” نفسها. أظهرت الحرب التي شنّتها إسرائيل على إيران، ثمّ الضربات الأميركية التي استهدفت ثلاثة مواقع مرتبطة بالبرنامج النووي لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”، مدى ضعف النظام القائم وترهّله.
ربّما يمثّل ذلك الموقف الإيراني من لبنان التفسير المنطقي الوحيد لإصرار “الحزب” على الاحتفاظ بسلاحه. إنّه إصرار يبرّر، من وجهة النظر الأميركيّة والإسرائيلية، استمرار الاحتلال الإسرائيلي لخمسة مواقع داخل الأراضي اللبنانيّة. أكثر من ذلك، لا يزال سلاح “الحزب” يبرّر استمرار الغارات الإسرائيلية على مواقع عسكرية وغير عسكرية لـ”الحزب” في الداخل اللبناني من دون أن يؤدّي ذلك إلى أيّ ردّ فعل من مجموعة أخذت على عاتقها شنّ “حرب إسناد غزّة” على إسرائيل انطلاقاً من جنوب لبنان… كأنّ مثل هذه الحرب نزهة.
صار الاحتلال الإسرائيلي المستجدّ مبرّراً لاحتفاظ “الحزب”، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، بسلاحه
إيران خسرت كلّ الحروب
ليس السلاح الإيراني في لبنان سوى مدخل لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي. في الواقع، صار الاحتلال الإسرائيلي المستجدّ مبرّراً لاحتفاظ “الحزب”، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، بسلاحه. وهو سلاح ذو وجهة استخدام واحدة هي السيطرة على لبنان. لم يكن هذا السلاح يوماً سوى امتداد للمشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة، وهو المشروع الذي يرفض “الحزب” أخذ العلم بأنّه انتهى إلى غير رجعة.
انتهى المشروع التوسّعي الإيراني بعدما خسرت “الجمهوريّة الإسلاميّة” كلّ الحروب التي خاضتها على هامش حرب غزّة وهجوم “طوفان الأقصى” الذي شنّته “حماس” في السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023. كان في اعتقاد إيران أنّ مفتاح توسيع حرب غزّة في جيبها، وأنّ في استطاعتها الدخول في مفاوضات مع “الشيطان الأكبر” الأميركي بغية الوصول إلى صفقة تكرّس دورها الإقليمي.
لم تكن خسارة إيران، عبر “الحزب”، لـ”حرب إسناد غزّة” انطلاقاً من جنوب لبنان سوى دليل على تغيير كبير على الصعيد الإقليمي من جهة، ونهاية دور “الحزب” من جهة أخرى. لم تخسر إيران حرب جنوب لبنان فحسب، بل خسرت لبنان أيضاً. لو كان “الحزب” لا يزال في السلطة، لما كان جوزف عون في قصر بعبدا ولما كان نوّاف سلام في موقع رئيس مجلس الوزراء، مقيماً بالتالي في السراي الحكومي.
ترفض “الجمهوريّة الإسلاميّة” الاعتراف بأنّها خسرت لبنان مثلما خسرت سوريا، حيث لا مجال لعودة حكم الأقلّيّة العلويّة بعدما فرّ بشّار الأسد إلى موسكو في الثامن من كانون الأوّل 2024. إضافة إلى ذلك، ترفض “الجمهوريّة الإسلاميّة” الاعتراف بأنّ العراق لم يعد تحت سيطرتها كما كانت عليه الحال في الماضي القريب على الرغم من وجود محمّد شيّاع السوداني في موقع رئيس الوزراء. لا تجرؤ حكومة السوداني، بسبب خشيتها من ردّ الفعل الأميركي، على تمرير قانون متعلّق بـ”الحشد الشعبي” في مجلس النواب. ليس “الحشد الشعبي” أكثر من مجموعة ميليشيات مذهبيّة عراقية تابعة لـ”الحرس الثوري”. المطلوب إيرانيّاً تكريس شرعية “الحشد” كي يلعب الدور الذي يلعبه “الحرس الثوري” في إيران كقوّة معترف بها رسميّاً مثلها مثل الجيش العراقي.
انتهى المشروع التوسّعي الإيراني بعدما خسرت “الجمهوريّة الإسلاميّة” كلّ الحروب التي خاضتها على هامش حرب غزّة وهجوم “طوفان الأقصى”
رفض الرّضوخ للابتزاز
لبنانيّاً، هذا ليس وقت التذاكي بمقدار ما هو وقت تسمية الأشياء بأسمائها، مع ما يعنيه ذلك من اعتراف بأنّه ما كان لإسرائيل أن تحتلّ أرضاً لبنانيّة لولا حماقة “الحزب” المتمثّلة بفتح جبهة جنوب لبنان يوم الثامن من تشرين الأوّل 2023. ليس بقاء سلاح “الحزب” سوى حجّة لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي المطلوب التخلّص منه من أجل تحقيق عودة النازحين اللبنانيين إلى قراهم ومباشرة إعادة إعمار هذه القرى الحدودية.
لا بدّ، في نهاية المطاف، من العودة إلى بديهيّتَين. البديهيّة الأولى أنّ “الحزب” خسر الحرب التي شنّها على إسرائيل. لم تكن تلك الحرب سوى مغامرة يرفض دفع ثمنها غير آبه بالنتيجة المترتّبة على تلك الهزيمة المدوّية. يفضّل “الحزب” خلق أزمة سياسيّة داخلية، ذات طابع مذهبي، على الدخول في عمليّة تستهدف تحقيق الانسحاب الإسرائيلي من لبنان. أمّا البديهية الأخرى فتتمثّل في رفض إيران الاعتراف بخسارة لبنان بعدما خسرت سوريا. يؤكّد كلام وزير الخارجية الإيراني أنّ همّ “الجمهورية الإسلاميّة” بات محصوراً في الرغبة بالاحتفاظ في لبنان وكأنّ شيئاً لم يتغيّر في المنطقة وفي سوريا بالذات.
من يستطيع إقناع وزير الخارجية الإيراني، الذي يمتلك خبرة طويلة في مجال التعاطي مع دول المنطقة ومع الدول الأوروبيّة ومع الولايات المتّحدة، بأن لا عودة إيرانيّة إلى لبنان. يعود ذلك، بكلّ بساطة، إلى التغيير الكبير الذي حصل في سوريا التي كانت، منذ صيف عام 1982 يوم دخلت مجموعة من “الحرس الثوري” إلى مدينة بعلبك في البقاع اللبناني، جسراً بين “الجمهورية الإسلاميّة” ولبنان.
في انتظار استيعاب إيران، وبالتالي “الحزب”، للواقع الإقليمي الجديد ليس أمام لبنان سوى خيار الصمود ورفض الرضوخ لحملة الابتزاز الإيرانية القائمة على أوهام. في مقدَّم هذه الأوهام أنّ المشروع التوسّعي الإيراني لم يمُت بعد… في حين أنّه شبع موتاً.