يتأكّد يوميّاً وجود حاجة إلى علاقة من نوع جديد بين لبنان وسوريا. علاقة تأخذ في الاعتبار عوامل كثيرة، من بينها رفع الولايات المتّحدة العقوبات عن سوريا بعدما استجاب الرئيس دونالد ترامب لدعوة من الأمير محمّد بن سلمان وليّ العهد السعودي. تلا ذلك رفعٌ كامل للعقوبات الأوروبية عن البلد.
كان محمّد بن سلمان عرّاب الاجتماع الذي انعقد في الرياض بين الرئيس الأميركي والرئيس السوري الجديد أحمد الشرع. أقلّ ما يمكن وصف هذا اللقاء به أنّه تحوُّل تاريخي على صعيد المنطقة كلّها في ضوء خروج إيران من سوريا وعودة دمشق إلى الحضن العربي.
يكفي، لتأكيد أهمّيّة الحدث، جعله القمّة العربيّة التي انعقدت في بغداد حدثاً هامشيّاً شكلاً ومضموناً، بل يمكن القول إنّ القمّة الحقيقية كانت اللقاءات التي انعقدت في أثناء جولة الرئيس الأميركي التي شملت الرياض والدوحة وأبو ظبي والاتّفاقات التي تُوّجت بها.
يفترض بلبنان أن يكون في مستوى هذا التحوُّل واستيعاب أبعاده. إنّ التحوّل الذي شهدته سوريا يشبه إلى حدّ كبير ما حصل في 16 تشرين الثاني عندما وضع حافظ الأسد يده على كلّ مفاصل السلطة تحت شعار “الحركة التصحيحيّة”. كان ذلك بداية تكريس لقيام نظام علويّ في سوريا. بقي هذا النظام، الذي وُضعت أسسه في 23 شباط 1966، تاريخ الانقلاب الذي نفّذه صلاح جديد وحافظ الأسد، صامداً حتّى يوم فرار بشّار الأسد إلى موسكو في الثامن من كانون الأوّل 2024.
كان محمّد بن سلمان عرّاب الاجتماع الذي انعقد في الرياض بين الرئيس الأميركي والرئيس السوري الجديد أحمد الشرع
فرصة أمام لبنان
في عام 1970، اختار لبنان سليمان فرنجيّة الجدّ رئيساً للجمهوريّة في ما يمكن وصفه بانقلاب على الشهابيّة السياسية (نسبة للرئيس فؤاد شهاب) تحت تأثير الحلف الثلاثي بين الأقطاب المسيحيين الثلاثة كميل شمعون وبيار الجميّل وريمون إدّه.
لم يستطِع رئيس الجمهوريّة اللبنانية الجديد، بثقافته السياسية المتواضعة، خصوصاً على الصعيد الإقليمي، استيعاب ما يجري في المنطقة وأبعاد التحوُّل السوري في ضوء أحداث أخرى بالغة الأهمّية. في مقدَّم هذه الأحداث غياب جمال عبدالناصر، بما بقي يمثّله على الصعيد العربي على الرغم من هزيمة عام 1967. كان عام 1970 عام خروج الفدائيين الفلسطينيين من الأردن وتدفّقهم على لبنان، الذي وقّع اتّفاق القاهرة المشؤوم في 1969. لم يكن حافظ الأسد نفسه بعيداً عن إغراق لبنان بالفدائيين الفلسطينيين، خصوصاً أنّه كان وزيراً للدفاع في سوريا منذ عام 1966 وأشرف بنفسه على تسليم الجولان إلى إسرائيل.
باختصار شديد، لم يكن في لبنان في عام 1970 من هو قادر على استيعاب معنى ما حصل في سوريا وأبعاد ذلك على الصعيد الإقليمي. لم يستوعب رئيس الجمهورية وقتذاك مغزى تمكّن هنري كسنجر، وزير خارجيّة الولايات المتّحدة، في عام 1974 من الذهاب بطائرته إلى دمشق وامتناعه عن الهبوط في مطار بيروت. انعقد اللقاء بين سليمان فرنجيّة الجدّ وهنري كسنجر في مطار رياق العسكري. أضاع رئيس الجمهوريّة وقته ووقت كسنجر في شرح تاريخ القضيّة الفلسطينية لوزير الخارجية الأميركي الذي يعرف تفاصيل التفاصيل عمّا يدور في المنطقة وعن تاريخها… وما يُعدّ لها.
أمام لبنان حاليّاً فرصة بناء علاقات طبيعيّة مع سوريا. صحيح أن هناك تجاهلاً سوريّاً للبنان ودور قسم من أبنائه في أثناء الأحداث السورية التي تُوّجت بسقوط النظام العلويّ. لا يأتي الرئيس الشرع ووزير الخارجيّة أسعد الشيباني على ذكر لبنان لدى حديثهما عن الدعم الذي توافر لسوريا في السنوات القليلة الماضية. يبدو واضحاً أنّ جرحاً عميقاً خلّفه انضمام “الحزب” إلى الحرب على الشعب السوري، وهي حرب قادتها “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانيّة بين عامَي 2011 و2014.
لم يكن في لبنان في عام 1970 من هو قادر على استيعاب معنى ما حصل في سوريا وأبعاد ذلك على الصعيد الإقليمي
أهمّيّة التّحوّل السّوريّ
لا يمنع هذا الجرح العميق من الارتقاء إلى مستوى الحدث السوري والأهمّية التي يعلّقها الأميركيون والأوروبيون على التغيير الذي حصل في هذا البلد. في النهاية، ليس صدفة حديث السفير الأميركي السابق في دمشق روبرت فورد عن دور له عبر إحدى المنظّمات البريطانية في تأهيل أحمد الشرع، وليس صدفة أن يترافق ذلك مع نشر مجلّة “إيكونوميست” مقالاً لحاكم المصرف المركزي السوري في الوقت الذي كان دونالد ترامب يعلن فيه من الرياض رفع العقوبات عن سوريا. وليس صدفة عثور إسرائيل على ملفّ جاسوسها المشهور إيلي كوهين ونقل هذا الملفّ من دمشق إلى تل أبيب.
لا شكّ أنّ لبنان يمتلك حاليّاً عبر رئيس الجمهوريّة جوزف عون ورئيس مجلس الوزراء نوّاف سلام مسؤولين قادرين على البحث عن موقع للبلد في المعادلة الإقليمية الجديدة. لا شكّ أيضاً أنّ هناك نوعاً من البطء اللبناني في اتّخاذ قرارات جريئة تتعلّق بسلاح “الحزب” الذي لم يكن في يوم من الأيّام سوى سلاح إيراني موجّه إلى اللبنانيين، قبل أن يكون موجّهاً إلى إسرائيل. لكنّ كلام جوزف عون ونوّاف سلام يظلّ كلاماً مهمّاً مع تركيزهما على “حصريّة السلاح” في يد الدولة اللبنانية التي لم تعد في العهد الجديد مجرّد دويلة في دولة “الحزب”. لا شكّ أيضاً أنّ الرئيس اللبناني خطا خطوة مهمّة عندما تحدّث عن “خيار السلام” ووصفه بأنّه “التحدّي الأكبر” الذي يواجه لبنان. لكنّ المهمّ في نهاية المطاف معرفة كيفية التعاطي مع التحوّل السوري الكبير بطريقة مختلفة. تأخذ هذه الطريقة في الاعتبار أنّ اللقاء الأميركي – السوري، الذي رعته السعودية، لم يكن حدثاً عابراً بمقدار ما أنّه حدث يفرض على لبنان البحث عن مكان له في المعادلة الإقليمية الجديدة بدل البقاء خارجها.
هل من تعبير عن أهمّيّة التحوّل السوري أكثر من تولّي “موانئ دبي” تطوير ميناء طرطوس؟