بقلم :حازم صاغية
جاءت كامب ديفيد الثانية في 2000 بائسة النتائج تماماً، لكنّ أكثر ما يعنينا هنا أثر الإضعافُ الذي أنزلته حملتا المتطرّفين في التسبّب بذاك البؤس. ففضلاً عن أنّ إدارة كلينتون كانت في سنتها الأخيرة، كان إيهود باراك وياسر عرفات يتسابقان في ضعفهما واندفاعهما للتوصّل، مرّة واحدة، إلى نتائج تلائم واحداً منهما دون الآخر. فالأوّل، المهجوس باستطلاعات الرأي، وفق تعبير درّجه الصحافيّون، تصرّف كمن يملي تسوية دائمة ونهائيّة، تُقبل أو تُرفض. لكنّ ائتلافه الحكوميّ كان يتصدّع، ما فاقمه خروجه بخفّي حنين من التفاوض المديد مع الأسد.
وكان «الحلّ» الملائم لعرفات عدم التسبّب بإعدام التسوية، وأيضاً عدم الوصول إلى تسوية. فهو، لخوفه من مزايدات الآخرين، آثر أن لا يقدم على ما قد يورّطه، سيّما وأنّ تفاوض إسرائيل والأسد زاد من تهميشه.
صحيح أنّ باراك ذهب أبعد ممّا كان أيّ رئيس حكومة إسرائيليّ مستعدّاً للذهاب يومذاك، لكنّه بقي بعيداً عمّا أحسّ عرفات بأنّه مستعدّ لقبوله، خصوصاً بالنسبة للقدس. فهنا، وفيما لم تظهر مواقف خارجيّة تحضّه على قبول العرض، بدا مضطرّاً لأن يحسب حساب عدد من الحكومات الإسلاميّة وردود أفعالها. وكان موضوع حقّ العودة الكامل ممّا يستحيل على أيّ إسرائيليّ تؤرّقه ديموغرافيّات الدولة «اليهوديّة» أن يقبله، سيّما في ظلّ علاقات، دينيّة وطائفيّة وإثنيّة، غير مشجّعة بين جماعات الجوار العربيّ.
وسريعاً ما تلا انهيار القمّة زيارة أرييل شارون إلى جبل المعبد والحرم الشريف، وانفجار الانتفاضة الثانية. هكذا انتُخب من «لم يكن قابلاً للانتخاب»، وبات الأمن هو هو السياسة. وبذريعته شرع شارون ببناء الجدار العنصريّ، وغدت فكرة «الدولتين» لغواً فيما أكثريّة الإسرائيليّين ترى السلام مضادّاً للأمن.
ومع الانتفاضة، تجدّدت العمليّات الإرهابيّة، وكانت المدن الكبرى مسرحاً لعشراتها، ومن جسد «فتح» انبثق تنظيم «كتائب شهداء الأقصى»، وقضى أكثر من 1200 شخص وجُرحت أعداد أكبر كثيراً بنتيجة العمليّات، بينما اقتحمت القوّات الإسرائيليّة المدن الفلسطينيّة في المنطقة أ، بما يناقض أوسلو.
وإبّان تلك الانتفاضة وقمعها الإسرائيليّ، تعرّضت نيويورك لـ11 أيلول التي عزّزت عند خصوم الحقّ الفلسطينيّ ميلهم إلى دمج قضيّتهم بالإرهاب الإسلامويّ، ما فاقمته أعمال إطلاق النار ابتهاجاً بفِعلة «القاعدة» في بضعة مخيّمات فلسطينيّة. لكنْ مع حادثة «كارين إيه» في 2002، حين ضبط الإسرائيليّون سفينة محمّلة بالأسلحة قالوا إنّها تعود إلى السلطة الفلسطينيّة، فسُدت العلاقة كلّيّاً ولم يعد في الوسع ترميمها.
ومع المبادرة السعوديّة وقمّة بيروت في 2002، قُدّمت خطّة عربيّة تقايض الاعتراف بالسلام. لكنّ النظام السوريّ والنظام اللبنانيّ التابع له حينذاك حالا دون التواصل بين القمّة وعرفات. وكان الأخطر أنّه في يوم افتتاح القمّة الذي صادف عيد الفصح اليهوديّ، نفّذت «حماس» عمليّة في نتانيا عُدّت الأضخم من نوعها حتّى حينه. فقد قُتل أكثر من ثلاثين مدنيّاً ومدنيّة إسرائيليّين فيما جُرح 140 شخصاً. وهكذا فبدل تشديد الضغط السياسيّ على حكومة شارون، وحملها على التجاوب مع خطّة السلام الوليدة، أو دفعها إلى موقع دفاعيّ، تجاهلت إسرائيل القمّة لتنطلق عمليّة «الدرع الواقي» العسكريّة ويُحاصَر عرفات في مقرّه، دون أيّ اكتراث بأوسلو. ولئن تدهورت صحّته، فهو ما لبث أن توفّي وسط شائعات عن تسميمه.
صحيح أنّ الانسحاب الأحاديّ من غزّة في 2005 أبقاها عمليّاً تحت الاحتلال، تبعاً لاحتفاظ إسرائيل بالسيطرة الكاملة على جميع منافذها. لكنّ استمرار واقع كهذا لم يكن حتميّاً، وبالتأكيد كان لأيّ تقدّمٍ يصيب عمليّة السلام أن ينعكس عليه، ولو تدريجاً أو تعرّجاً. بيد أنّ ما حصل كان العكس تماماً: فالحصار والخنق الإسرائيليّان حلاّ بعد فوز «حماس» في انتخابات 2006، وهذا قبل أن تتشدّد تلّ أبيب في تطبيقهما إثر انقلاب «حماس» الدمويّ وسيطرتها على القطاع عام 2007. فالحركة الإسلاميّة، باستيلائها على السلطة، أخرجت غزّة من التعاقد الذي انطوت عليه أوسلو ومن المسؤوليّات المنجرّة عنه. ولئن كانت إسرائيل دائمة الاستعداد للتنصّل من التزاماتها، فكيف حين يقدّم لها الذريعة طرفٌ لا يعترف أصلاً بها وبالسلام معها، ويرى ميثاقه الصادر في 1988 أنّ «لا حلّ للقضيّة الفلسطينيّة إلاّ بالجهاد».
لقد انتهت أوسلو عمليّاً، وباتت محاولات إحياء مشروع السلام أقرب إلى مبادرات فاترة. ففي 2007 انعقدت قمّة أنّابوليس بحضور الرئيس محمود عبّاس ورئيس الحكومة الإسرائيليّة إيهود أولمرت ورعاية الرئيس الأميركيّ جورج دبليو بوش. لكنّ القمّة التي دعت إيرانُ و»حماس» إلى مقاطعتها و»إسقاطها شعبيّاً»، وشنّ عليها الراديكاليّون الإسرائيليّون حرباً سياسيّة وإعلاميّة موازية، لم تستطع شقّ أيّ طريق عمليّ. بعد ذاك، وفي 2013، رعى وزير الخارجيّة الأميركيّ جون كيري محاولة لاستئناف المفاوضات لم تعش سوى أشهر.
وما كان إسقاط أوسلو ليحتاج إلى كلّ هذا الجهد لو أنّ طرفاً كان، سلفاً وبالأصل وبالكامل، ضدّ كلّ سلام.