بعد الحكم على على كوشيب، لم يعد السؤال: ماذا فعل الرجل؟ فهذا موثق فى آلاف الصفحات.
السؤال الحقيقى الذى يفرض نفسه الآن هو: ماذا يفعل قادة الحرب اليوم؟ وما الذى ينتظرهم؟.
لأن لحظة المحكمة لم تكن فقط لحظة إغلاق ملف من الماضى؛ كانت مرآة مفتوحة على الحاضر السودانى كله. مرآة تقول بوضوح إن الجرائم التى بدأت فى دارفور لم تتوقف يومًا، بل أعادت إنتاج نفسها فى مناطق أخرى، وبوجوه جديدة، وبشهوة أكبر للسلطة والمال والسلاح.
فالسودان يعيش اليوم أخطر اختبار فى تاريخه الحديث. اختبار بين دولة تريد أن تُبعث من الرماد، وجماعات سلاح تتكاثر كالأفرع السامة من جذع واحد زرع بذوره نظام البشير.
الدعم السريع، الذى يقود اليوم جانبًا من الحرب، لم يهبط من السماء. هو الامتداد الطبيعى للجنجويد، الصورة الأكثر تطورًا وتنظيمًا وتمويلًا، لكنه الصورة ذاتها: نفس العقيدة، نفس الذهنية، نفس الإيمان بأن السيطرة على الأرض والناس يمكن أن تتحول إلى حق مكتسب.
وفى الجهة المقابلة، لم يعد الجيش هو المؤسسة الصلبة القديمة، بل تشظّى تحت ضغط الصراع، وظهرت داخله وحوله مجموعات لا تختلف كثيراً فى سلوكها عن الميليشيات التى تقاتلها.
ما جرى فى الخرطوم ودارفور وكردفان خلال العامين الماضيين يضيف فصولاً أشد قتامة مما حدث قبل عشرين عامًا:
مدن أُفرغت من سكانها، أسواق نُهبت بالكامل، أطفال خطفتهم الحرب من مدارسهم، نساء اختفين بلا أثر، أحياء سقطت تحت سيطرة هذا الطرف أو ذاك ثم تحولت إلى رماد.
هذه ليست حربًا سياسية، ولا صراعًا على السلطة؛ بل انهيار كامل لفكرة الدولة نفسها.
ولأن الذاكرة السودانية مثقلة بالدم، فإن مشهد كوشيب فى المحكمة كان رسالة صارخة لمن يظنون اليوم أنهم فى مأمن. فالقادة الذين يديرون الجبهات الآن، من كلا الطرفين يكررون السيناريو ذاته الذى انتهى بالرجل فى لاهاى، إفراط فى الثقة، اندفاع خلف السلاح، شعور بأن المجتمع الدولى مشغول، وأن الزمن كفيل بطمس الجرائم.
لكن العالم تغيّر، هذه المرة، الجرائم تُوثَّق لحظة بلحظة؛ بالكاميرات والهواتف والأقمار الصناعية.
وملف جديد لسودان اليوم يُفتح فى كل عاصمة كبرى، تمامًا كما فُتح ملف دارفور قبل عقدين.
الذين يعتقدون أن الإفلات ممكن، عليهم أن يسألوا أنفسهم سؤالًا بسيطًا كم من أمثال كوشيب ظنوا أنهم خالدون؟
اليوم، تُفتح المقابر الجماعية فى دارفور من جديد، ويُعاد اكتشاف القصص نفسها. عائلات أُبيدت، شباب اختفوا، كبار سن تُركوا للموت، قرى مسحتها الميليشيات من الوجود.
وكأن السودان يدور فى دائرة مغلقة، يبدأ فيها كل جيل حربه الخاصة، ثم يُترك ليلملم أشلاءه منفردًا. ولهذا كان المشهد فى لاهاى مهماً؛ لأنه أول كسر حقيقى لهذه الدائرة.
فإذا كان على كوشيب هو وجه الماضى، فإن وجوه قادة الحرب اليوم هى وجه الحاضر الذى سيقف غداً أمام القضاة، مهما طال الزمن.